يكتب ناقد فني عن مصوّرة بأنها "تكاد تقنعنا في كل لقطة من لقطاتها أن عينيها هي مخزن لصور لا تُرَى إلا بتقنيّات خياليّة" وأحسب أن هذا التوصيف ينطبق - بشكلٍ ما - على مجموعة من الصور الفوتوجرافية التي تحمل توقيع الفنانة الشابة ريم البيات بعينها النّهمة إلى احتواء اللقطة وتجاوزها؛ بإعادة تدبيرها، وخلعِها من فضائها المحايد الجامد؛ عادةً واستعمالاً وحضوراً، إلى فضاء الفنّانة الخاص. تجذبها إلى حوض تجربتِها ومصهرِها الداخلي. هناك تتخلّى اللقطة عن وجودِها الخام الواضح المحدّد، وتندغم في مجرى جديد يعيد تخليقها وتظهيرها كأنها لم تكن إلا في لحظة الميلاد هذه، عندما عانقتْها عينُ الفنّانة وحرّكتْ الخيطَ؛ جاذِباً ومحرّكاً ومؤولاً.
تتصدّع اللقطةُ ويقوم الاشتغال لا بالترميم التزويقي لدمية، لكنه اشتغالٌ بالإفاضة والاحتواء؛ الإراقة في التجربة بما يعدم المسافة القديمة الخارجية ويحيلها إلى مسافة جوّانيّة تنحصر ما بين العين، وما بين المخيّلة بأسرارها المخبوءة أبداً حتى عن عينِ صاحبتِها، محكومة بالمفاجأة وبما لا يُتوقّع، يغيب عنها التخطيط والقصديّة وتنهمك في انفلاتِها وحريّتِها وانبثاقاتِها العفويّة، والمتخففة من أي قيدٍ أو سياج يصنعه الوعي الممتثل للمطابقة والنسخ والمضاهاة. إنه خيالٌ حرٌّ تضطرب أجنحتُه في سديمٍ لا يتوضّح؛ هبةٌ من هبات اللاوعي تطفر عن حاجز الرهانات المحسوبة وتسيل في نُعمَى تجربةٍ تحضنُ وترعى حتى استواء اللوحة منسجمة بمفرداتها المتعددة، إذْ لم تكن اللقطة إلا مفردة واحدة انتظمتْ في بناءٍ يعطيها صيرورةً لم تكن لها، وهي بعدُ معزولةٌ مُفرَدة أمام الآلة تعيش غفليّتها ومجهوليّتها.
إن هاجس البناء والتشكيل يجعل ريم البيات، أو على الأحرى يمكِّنُها من تحرير اللقطة وتصعيدها إلى لوحة فنيّة لم تصنعها الكاميرا، ولا زوايا اللقطة، ولا التقنيّة التي هي الآن طوع اليدين ورهن مشيئة التنفيذ. إنما صنعتْها روحُ فنّانةٍ لها القسط الأوفى من الإبداع تسخّر الكاميرا والتقنيّة؛ توظيفاً لرؤية تعتمل تحت السطح في ماء الأحلام، ثم تمثُلُ بازغةً في مزيجٍ من الأمشاج الغارقةِ في ضباب اللون وارتعاشة بما يشبه "ظلالَ الصّخب" تنحلّ فيها الملامح والوجوه وأجزاء البدن ونُثار الأشياء؛ ما يتبقّى مغموساً في السكينة يقول بأن شيئاً مرَّ من هنا وثمّة حاجاتٌ تركها الصّاخبون، تنبئُ عن نقصانٍ، وتَشِي بتوْقٍ هائم يفرُّ من صورة إلى صورة حيث لا مُستقَر إلا هذه الحركة الجوّابة تبتلعُ العينَ في دُوار عذوبةٍ تغيب معها محفّزاتُها المباشِرة سوى أنّ لها أسبابها الوطيدة في أن تمكث في الحواس.
تقول سوزان سونتاغ "إن النصوص تستطيع أن تجعلنا نفهم. أما الصور فهي تفعل شيئا آخر. إنها تسكننا". ولمثل هذه السُّكنَى يطيب للعينِ أن تشهد.