في عام 2003 عدت إلى العالم العربي بعد عشرين عاما قضيتها في أميركا، وحدث لي في أول شهر عدت فيه ثلاثة مواقف لا أنساها، وهي تمثل لب قضيتنا التي سنتحدث عنها اليوم.
الموقف الأول.. كان عند وصولي للمطار، وأثناء انتظاري لاستلام حقائبي، قرر الشخص الذي يقف بجواري أن يشعل سيجارة وأن ينفخ سمومه في وجهي، وعندما ذكرته بأدب أن هناك قوانين تمنع التدخين في المطارات، كان رده أسوأ من فعله.
أما الموقف الثاني.. فكنت أسير على الرصيف موازيا لشارع الخدمات في أحد أرقى الشوارع في أحد البلاد العربية، وإذ بسيارة تُفتح إحدى نوافذها ويلقي من فيها من شباب ما تبقى من وجباتهم السريعة على قارعة الطريق، فأشرت إليهم بعلامة استفهام، فكان ردهم لا يختلف كثيرا عن فعلهم المشين. ورأيت شرطيا فأشرت إليهم وشرحت له ما فعلوه، فنظر إليَّ وقال ساخرا (وماذا تريدهم أن يفعلوا بالقمامة.. أن يأخذوها معهم إلى بيوتهم؟) وقفت في ذهول، وتركت مسرح الجريمة وقد انقلب ذهولي إلى حنق وحزن وحسرة.
وأما الموقف الثالث فهو عندما دعيت مع بعض الزملاء لرحلة صيد وفوجئت أن بعضهم وهم من حملة الشهادات يلقون بعلب العصيرات والمرطبات والمشروبات الغازية في البحر، وعندما استنكرت عليهم فعلهم وشرحت لهم خطورة ذلك على الثروة السمكية والتلوث المائي، أجاب أحدهم ساخرا متهكما (أتريد أن تقول لي إن ما ألقيته الآن هو الذي سيلوث هذا البحر الكبير؟!).
ثلاثة مواقف.. أما المدخن فقد أسهم في تلوث بيئة الهواء، ومن ألقى بالنفايات في الشارع فقد أسهم في تلوث البر، ومن ألقاها في البحر فقد أسهم في تلوث البحر.
ما الذي يجمع بين هذه التصرفات الثلاثة المستهترة غير المسؤولة؟
ولماذا يعجزون عن أن يروا ما يفعلون من فساد في البر والبحر؟
إنهم يعجزون لأنهم يرون أفعالهم من منطلق وعين (الأنا) التي فيهم. (الأنا) بطبيعتها تعتقد أنها منفصلة عن غيرها من الناس، ولا تدرك أن الكون أعقد من ذلك، كل شيء فيه متداخل مع الآخر، ليس فيه شيء منفصل عن الآخر، وأن كل عمل نقوم به سيعود لنا أو علينا عاجلا أم آجلا، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
(الأنا) بطبيعتها أنانية أي (أنانية) نيتها أن تخدم وتسعد نفسها لا أن تخدم وتسعد الإنسانية، هذا المنطق أو بالأحرى ما يستحق أن يسمى بالخلل الوظيفي في العقل الفردي، لو أنه أصبح هو المنطق السائد على وجه الأرض، فماذا نتوقع؟
عدت أبحث عن إحصائيات تلوث الهواء والأرض والماء، فهالني ما وجدت:
نبدأ بتلوث الهواء.. وجدت أن المصانع الأميركية وحدها تنتج سنويا حوالي 3 ملايين طن من مواد ونفايات كيميائية سامة في الهواء، وكذلك الحال في البر والماء، مثل ملوثات الهواء الغازية الشائعة كأول أكسيد الكربون وثاني أكسيد الكربون وأكسيد النيتروجين الذي تنتجه الصناعات وتطلقه محركات الطائرات، فمطار لوس أنجلوس وحده يطلق 800 ألف طن من ثاني أكسيد الكربون في الشهر الواحد، ويؤكد العلماء أن غاز ثاني أكسيد الكربون المتراكم في الهواء أدى إلى زيادة حموضة المحيطات، هذا التلوث الهوائي يتسبب في الأيام الماطرة بما نسميه بالأمطار الحمضية التي ألحقت الأضرار الجسيمة بالثروة الزراعية والحيوانية والسمكية، وكمثال فإن 40% من أراضي الصين قد تأثرت بالأمطار الحمضية، وفي عام 1984 أتلفت الأمطار الحمضية نصف أشجار الغابة السوداء في ألمانيا، بل أحدثت هذه الأمطار أضرارا خلال الأربعين سنة الماضية، أكثر مما حدث على مدى 2500 عام مضت.
والتلوث الهوائي لا يستقر في مكان واحد، فهو ينتقل من مكان إلى آخر بحسب حركة الهواء فتذوب العوالق في بخار الماء المحمول في الهواء لتعود ثانية إلى التربة، فالهواء المتلوث في الصين مثلا ينتقل إلى أميركا في خمسة أيام فقط، ويمكن أن يغير الطقس هناك ويحول دون تكوين السحب والأمطار، والناس الذين يعيشون في منطقة ذات تلوث هواء عال ترتفع فيهم نسبة الوفيات نتيجة زيادة نسبة الإصابة بسرطان الرئتين بنسبة 20%، وكمثال فإن منظمة الصحة العالمية تقدر أن 6400 شخص يموتون كل عام في المكسيك نتيجة التلوث الهوائي.
أما تلوث البر، فهو الفساد الذي يصيب التربة فيغير من خصائصها وخواصها الطبيعية أو الكيميائية أو الحيوية أو يغير تركيبها بشكل يجعلها تؤثر سلبا بصورة مباشرة أو غير مباشرة على من يعيش فوق سطح الأرض من إنسان وحيوان ونبات.
وجدت أن العائلة الواحدة في أميركا الشمالية أو أوروبا أو أستراليا تلقي كل عام ما يعادل طنا من النفايات (1 بليون طن في العام الواحد في أميركا وحدها)، وقد أعلنت وكالة حماية البيئة (Environmental Protection Agency) أن أميركا وحدها تنتج في العام الواحد أكثر من 256 مليون طن من نفايات خطيرة، وهذا لا يشمل النفايات غير المراقبة، بل إن إطارات العجلات التي تلقى كل عام لو جمعت فوق بعضها سيصل الارتفاع إلى 32.000 ميل (أي أكبر من محيط الأرض البالغ 25.000 ميل).
أما تلوث الماء فوجدته أسوأ الثلاثة، علما بأن 3% فقط من الحجم الكلي لمياه الأرض مياه عذبة، وعلى ضآلتها فإنها في حالة تدهور مطرد في نوعيتها وصلاحيتها. 14 بليون باوند من النفايات معظمها بلاستيكية تلقى كل عام في المحيط، علما بأن استخدام المواد البلاستيكية يزداد بنسبة 10% سنويا على مدى 20 عاما مضت. 1.2 تريليون جالون من مياه المجاري غير المعالجة ونفايات صناعية تلقى في المياه كل عام في أميركا وحدها.
بعد حادثة تسونامي ألقت اليابان 11 مليون لتر من المياه المشعة في المحيط الهادي، وبعد بضعة أيام وجدت أسماك مشعة على بعد 50 ميلا من الشاطئ. لكل مليون طن يشحن من البترول يتسرب منه طن في البحر، وفي عام 1989 في حادثة (إكسون) الشهيرة تلوث حوالي 1300 ميل (2000 كلم) على خط ساحل ألاسكا، وقتل هذا التسرب 500 ألف طائر بحري وحيوانات أخرى كثيرة.
وفي مقال قادم - بإذن الله - سنتحدث عن الأوضاع البيئية في عالمنا العربي، وسنبحث فيما إذا كانت علاقة (الأنا) بالبيئة علاقة استغلال واستنزاف، أم علاقة رعاية واستخلاف، وسنحاول الإجابة عن سؤال: هل هناك طرق لإصلاح ما أفسدناه في البر والبحر والهواء؟