الفن ليس لَهوا ولا حتى ترفا رفيعا، بل هو ضرورة مُلحة من ضرورات النفس الإنسانية في حوارها الشاق المستمر مع الكون المحيط، وهذا ما يؤكد عليه رينيه ويج، أحد الأعلام المرموقين في ميدان تاريخ الفن وعلم الجمال في عصرنا الحديث.
وإذا صح القول ألا فن بلا إنسان، فينبغي القول ألا إنسان بلا فن.
وهذا الفن الذي يُعد ركيزة أساسية للحياة الإنسانية ولا يستقيم حالها إلا بوجوده وجودا فعالا، لن يولد ولن يترعرع إلا في كَنَف حرية تضمن له الاستمرار، بعيدا عن أي منغصات وعراقيل تعترض مجرى تياره المنساب في هدوء، وقد أشار إلى ذلك الأديب الفرنسي جوستاف فلوبير في أحد خطاباته التي أرسلها إلى لويز كوليه، إذ يقول "هذا هو السبب في أنني أحب الفن، لأن هناك على أقل تقدير يتحول كل شيء إلى حرية داخل عالم الأخيلة، هنا يتم إشباع كل شيء والقيام بأي شيء حيث يكون المرء مَلِكا ورعية في آنٍ معا، فاعلا نشطا وكائنا سلبيا، قربانا وكاهنا، وليس هناك من حدود، وتصبح الإنسانية بالنسبة إليك دمية ذات أجراس يمكن جعلها تدق حتى نهاية مقطعها الموسيقي، مثل بهلوان، إلى آخر مدى يبلغ قَدَمه".
هنا بالطبع يتحدث فلوبير عن الحرية بمعناها الحقيقي، لا الوهمي، الحرية التي ينشدها الجميع، الفنان المبدع قبل الإنسان غير المبدع، الحرية التي هي مرادف للحياة، ولا بد من أن ينعم الجميع أسفل ظلال أشجارها الوارفة، الحرية التي هي بلا سقف وبلا حدود، طالما أنها لم تقترب من خدش حريات الآخرين، لأنه دون حريةٍ تفتح الأبواب أمامه إلى آفاق وعوالم الإبداع والخلْق والابتكار، لن يستطيع أن يخطو ولو لخطوةٍ واحدةٍ على درب الإبداع فنا كان أم أدبا.
وحدها الحرية تمنح الفنان الثقة في نفسه وتضفي عليه سُحب الأمان، جاعلة إياه يبدع ويبتكر والجا داخل أعماق عوالم لا يجرؤ مَنْ سواه على مجرد الاقتراب منها.
وهي وحدها، التي تجعل مؤشره الفني يتحرك إلى أعلى مسجلا أسمى درجات الرقي الإبداعي والفني، وهي التي تجعل الفنان يحيا مستقرا نفسيا وإبداعيا دون أن يخشى أي قيد، أو أي ملاحقات، سواء على المستوى الديني، أو الاجتماعي، أو السياسي.
ووقتما تغيب شموس الحرية وتكسف أقمارها، وتحتل القيودُ مكانها، يتراجع الفن متجها إلى عصور ظلامية، وينضب معين الإبداع، ويتوارى الفنان باحثا عن صومعة يمارس فيها وحيدا عزلته الاختيارية أحيانا، الإجبارية غالبا، التي يفرضها على ذاته مُجبَرا حتى لا تطوله سهام الأذى أدبيا أو ماديا أو جسديا.
ومن أسف أننا حين نقلب صفحات التاريخ الإنساني، نجد أنه وعلى مساحات زمنية ممتدة، يتم اضطهاد الفنان وملاحقته ومحاولة النيل منه، وكأن ثمة اتفاقا بين مختلف العصور على أن تمارس الفعل نفسه ضد الفنان.
يبدو أن الفنان بما يمتلك من مَلَكات خاصة، ومشاعر نبيلة تدفعه دفعا إلى حب الخير والجمال، يصبح عدوا لقُوَى الشر الأخرى التي تحاول أن تفرض سلطتها على الكون الإنساني، ولهذا تحاول أن تسلبه حريته وأن تُحْكم قبضتها عليه حتى يكون تابعا لها، ولا يمثل سوى ذيلٍ دون فائدة، وكم من فنانين ومبدعين ضَحوا بحياتهم ضريبة لفنهم، وكم من فنانين آخرين قضوا معظم حياتهم إما مسجونين، وإما تم إقصاؤهم عن الحياة.
ورغم هذا ما يزال الفنانون الحقيقيون يواصلون مشاكستهم للحياة، رافضين كل أنواع القهر، حيثما الفن هو من ينتصر في النهاية، والفنان هو الذي يفرض كلمته، ويقرر مصيره وحده، دون أن يسمح لأحد أن يتحكم فيه أو أن يسلبه حريته التي يتوق إليها إلى الأبد.
* كاتب وناقد ومترجم مصري