إن قتل إنسان بلا جريرة مهما كان دينه أو جنسه أو اعتقاده جريمة بشعة، فكيف لو كان المقتول مسلما يسفك دمه وهو يؤدي صلاته لله راكعا وساجدا، ثم كيف لو كان المقتول قتل غدرا، ثم كيف لو كان المقتول مواطنا؟
إن القديح منطقة سعودية، كبريدة والقنفذة ونجران والرياض وجدة وتبوك، لا فرق بين مدينة ومدينة؛ ولا دم أرخص من دم، (ومن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا). نفس نكرة في سياق الإثبات كما يقول الأصوليون، وهي تعني أي نفس مهما كانت.
والذي يقصد أهل القديح بالقتل اليوم لأنهم شيعة؛ لا يستبعد أن يهدف إلى قتل أهل مدينة أخرى لأنهم مرتدون مثلا، ولن يعجز القاتل عن تبرير فعلته بما يشاء من شبهات وأقاويل. وإذ تبيّن أن القاتل المجرم منتمٍ إلى تنظيم داعش التكفيري المشبوه؛ فلا بد من التذكير ببعض النقاط:
1. تنظيم داعش التكفيري المجرم ليست مشكلته مع الشيعة فقط، بل هو يكفّر ويقتل أهل السنّة، ويغتال العلماء والدعاة والمصلحين منهم في العراق والشام، بل إنه لم يتوان عن تكفير إخوانه في الجهاديين – أعني جبهة النصرة – فضلا عن غيرهم.
2. صحيح أن جوانب من تنظيم داعش هي جوانب تنتمي إلى الحداثة، يظهر هذا في كتابهم (إدارة التوحش) - وليتأمل القارئ هذا المصطلح الذي كأن كاتبه سطّره في القرن التاسع عشر الميلادي -، كما يظهر هذا في تلك الآلاف المؤلفة التي ولدت وعاشت في بلاد الحداثة، في الغرب، ثم هاجرت لتحمل السلاح وتقاتل وتعيش أجواء الإثارة، أقول: صحيح أن جوانب من تنظيم داعش فيها نكهة حداثية، فمشروع (إدارة التوحش) هذا ليس مصطلحا قرآنيا ولا نبويا ولا فقهيا، بل هو مصطلح حداثي سياسي، لكنه في الوقت ذاته يستند إلى أدبيات تراثية، إن كان أخطأ في فهم بعضها، فلا يمكن القول إنه أخطأ في فهم كلها، ولئن كان أصاب فهم بعضها على مراد قائليها، فلا يمكن القول إنه أخطأ كل الخطأ في تنزيلها - كما أراد قائلوها -، وما أخطأ فيه من تنزيلها فهو عند قائليها في أسوأ حالاته اجتهاد ينال فيه المجتهد أجرا واحدا!
هذا، دون التأمل في تلك الأدبيات التي ما هي إلا فهوم بشر انتهى زمانهم ومشكلاتهم، فلا حاجة لنا بها الآن لا فهما ولا تنزيلا. وشرح هذا يطول جدا ولا تتسع له مقالة. ويعلمه المتخصصون.
3. هذا المفجّر التكفيري الأثيم إنما أقبل على فعلته الخبيثة الشنعاء تلك مشحونا بعاطفة جياشة، عاطفة حملته على القتل والتصفية، وهو يرى أنه يفعل ما يفعل تقربا إلى الله ونصرة لدينه. السؤال هنا: ما الأدبيات التي اعتمد عليها؟ ماذا كان يقرأ ويشاهد؟ من كان يتابع؟ ما المقولات التي يحفظها ويستدل بها ويستخدمها؟ هل كان يقرأ يا ترى الكتب العلمية المحضة التي تناقش الشيعة في العصمة والإمامة والتأويل وغيرها بالحجج العلمية والعقلية الرصينة، يقولون، ونقول، وإن قالوا قلنا، وإذا اعترضوا بكذا فالرد بكذا – وهو أمر مفهوم وله أهله وسياقه وأجواؤه -؟ أم كان يقرأ ويسمع ويشاهد ما يملأه كراهية وحقدا مما هو قائم على الأحكام العامة، والشتائم، والتهييج، واللعب بالعواطف؟
4. يقول الشيخ صالح الحصين، يرحمه الله: "التشدد موجود دائما في كل زمان ومكان، بل إنه مع الأسف قريب من طبيعة الإنسان، لا سيما إذا لم تروض بتربية الوسطية والاعتدال. والتطرف ينبعث في كثير من الأحيان عن عجز الإنسان عن النظر إلى الحقيقة من مختلف الزوايا، فالشمولية والتوازن في النظر إلى الآراء أو الأشخاص أو الأشياء لا ينموان إلا في ظل تربية متوازنة".
وهذا يدفعنا جميعا إلى الالتفات إلى التربية، كيف نربي أبناءنا، في المدارس والمساجد والبيوت، شيعة وسنة، أنربيهم على التطرف أم الاعتدال؟
إن إنسانا يتربى في بيئة تشحنه عاطفيا ضد الآخر هو قريب جدا من التطرف، إذ هناك حالة منشئة، وحالة كاشفة، فالحالة المنشئة هي تلك التغذية التي تؤبلس وتشيطن الآخر، ولكنها تبقى مكتومة، مستورة، تحت غطاءات عديدة، حتى إذا ما كشف الغطاء وظهرت مكنونات النفوس؛ فما بين فريق وفريق إلا أن يسلّم الأسلحة فقط، ثم يكون قتل الإنسان أهون عند أحدهم من قتل ذبابة، وقد رأينا هذا ونراه في العراق والشام.
التطرف لا يمكن أن ينشأ في بيئة تطرده، ولا يمكن أن يترعرع في أجواء ترفضه، وأوجب الواجبات اليوم تحصين هذه البيئة من هذا الانحراف الخطير الذي يهدد الوحدة الوطنية والسلم الاجتماعي؛ فـ"داعش" وأمثاله من التنظيمات المشبوهة لا يمكنه أن يغري شبابا محصنا ضد التطرف، وضد شعاراته، وما تستند تلك الشعارات عليه من تنظيرات.
5. لا بد من إسكات كل الأصوات التي تنفخ في نار الفتنة من جميع الطوائف، لا بد من قانون رادع يلجم تلك الأفواه التي تبث سمومها، فهل الحرب إلا من الكلام؟ وهل العنف اللفظي إلا مقدمة للعنف السلوكي؟
6. الخطاب المتطرف لا بد أن يواجه بخطاب معتدل، وعليه؛ لا بد أن ينال المعتدلون فرصتهم كاملة ووافية ليواجهوا التطرف والتشدد بالبينة والبرهان والدليل من الكتاب والسنة.
وقى الله البلاد والعباد أعمال هؤلاء الشرذمة الأشرار، ورحم الله الشهداء، وصبّر ذويهم، وعوضهم خيرا، إنا لله وإنا إليه راجعون.