من التسطيح الساذج أن ننظر إلى جريمة القديح كمجرد حادثة عنف طائفي، يقف وراءها خطاب كراهية استعدائي من جهة داخلية أو خارجية. فالأمر أكثر تعقيدا من ذلك بالتأكيد، وإن بدا واضحا أن من يقف خلف هذه الحادثة يحاول استغلال حالة التوتر الطائفي السائدة في ظل أوضاع خاصة تمر بها المنطقة. تلوح خلف هذه الحادثة وسابقتها في "الدالوة" ملامح خطة بدائية تحاول استفزاز أحد مكونات الشعب ليتصرف بطريقة تثير ارتياب المكون الآخر، مما يسمح بأن تطفو حالة من الاستقطاب الذي يؤدي بدوره إلى انزلاق أمني يسمح باستغلاله والنفاذ من خلاله ليتم توجيهه بعد ذلك لصالح المحرك الأصلي لهذه الخطة. تكاد هذه الخطة لفرط بدائيتها مفهومة من قبل الجميع تقريبا. ولكن القضية لا تتوقف على مجرد الفهم النظري، بل تتعدى أهميتها ذلك إلى ضرورة توافر النباهة العملية لدى جميع أطياف الشعب ليستكمل الشعب بها مقومات الحصانة الأخرى الملقاة على عاتق الأجهزة الأمنية في الدولة.

ولذلك فإن استبعاد الخطاب الطائفي كعامل رئيس في وقوع هاتين الحادثتين، لا يعني إطلاقا افتراض الاستهانة بخطورة هذا الخطاب، بل إن محاربته تقع في رأس قائمة الأولويات الآن، فإخماد فتيله بشكل استباقي هو الكفيل الحقيقي بتفويت الفرصة على من يهدف إلى حصول التفاعل الانفجاري بين هذا الخطاب وخطته المراد بها إدخال بلدان المنطقة في هذه المتوالية الشريرة. لذلك فآخر ما نحتاجه الآن تلك الأدبيات الاستفزازية التي تعج بها الكثير من المنابر، سواء في العالم الإلكتروني أو الواقعي، علماً بأننا لن نستطيع المضي في مكافحة مثل هذه الأدبيات قبل إقرارنا بوجودها والنظر إليها بعين الواقع أولا. على أصحاب مثل هذا الخطاب أن يدركوا أن القضية متعلقة بأمننا وأمن أطفالنا، فعليهم أن يكفوا عن عبثهم غير المسؤول. عليهم أن يفهموا نداء الضرورة المصلحية إن لم يفهموا نداء الدين والوطنية والأخلاق. كما علينا كشعب يعيش في هذه البلاد بامتنان أن نعمل بدأبٍ على إفهامهم بشتى السبل الفكرية والتربوية، ولا نكتفي بالمطالبة بالتجريم القانوني لأفعالهم، وإن كان هذا مهما بطبيعة الحال.

لا أتصور أن تلك الأيادي التي أثمت بحادثتي "الدالوة" و"القديح" لديها نية بالتوقف عن كيدها أو شرورها، بل الأمر مرشح بحسبانها إلى تكرار عملياتها بالطريقة ذاتها لا سمح الله. لذلك من المفترض عدم التأخر في مكافحة الأدبيات الطائفية، سواء تلك التي تستهدف السنة أو نظيراتها المستهدفة للشيعة، فالقضية قضية وطن.

ولعل أحد أبرز الأدوار هو الدور الذي من المفترض بمثقفي البلاد القيام به، لا من خلال الخطب والهتاف بذم الطائفية والتنديد بها فحسب، بل عليهم أن يتجاوزوا ذلك إلى التوغل الفكري في بنية الخطاب الطائفي ذاته وتفكيكه، سواء كان ذلك بواسطة استعراض أطروحاته وتفنيدها، أو من خلال تحليل بواعثه السيكولوجية ومقوماته التراثية والاجتماعية، في سبيل معالجتها بطرق علمية جادة وصبورة، وفي هذه البلاد من مفكرين وأكاديميين من هم مؤهلون لذلك بكفاءة وجدارة.

ومن حسن حظنا أننا كمسلمين نستند على قيمة عليا نؤمن بكونها أصل الرسالات وعلة السياسات، وهي قيمة العدل والقسط (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَاسُ بِالْقِسْطِ)، ولذلك فالأساس في تعاملنا مع الآخر هو تحري الإنصاف دون بغيٍ أو جور، وهذا كفيل وحده بإسقاط دعاوى الثأر والتعدي التي يجترها دعاة التمييز والطائفية عبر اجترار المرويات التاريخية الطاعنة في هذه الفئة الدينية والمذهبية أو تلك، (يَا أَيُهَا الَذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْط ولا يَجْرِمَنَكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَقْوَى وَاتَقُوا اللَهَ إِنَ اللَهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)، وإن كان هذا المنطلق في التعامل مع من هو خارج سور الملة، فهو المنطلق من باب أولى مع إخوة الملة والقبلة المغايرين للمرء في بعض المعتقدات. وهذا بلا شك مما يسهل مهمة المنظرين لخلع الشرعية عن دعاوى الخطاب الطائفي من زاوية دينية أخلاقية، وهو مما يتسق مع فكر المواطنة الحديث الذي يرتكز دعائمه على مبدأ المساواة أمام القانون من حيث الحقوق والواجبات، فالقانون هو التمثل المدني لقيمة العدل الأخلاقية كما هو معروف.

ليس علينا إهدار مثل هذه المكتسبات القيمية التي تسلحنا بها ثقافتنا في وجه النزعات الغرائزية التي يتضمنها الخطاب الطائفي تحت أغطية خادعة من المزايدة الدينية، التي لا يتوسل في تمريرها على الأذهان أكثر من حيل إنشائية، ومغالطات منطقية، هي وسيلة كل فكر أعوج ومضلل.