قبل قرابة الستة أشهر كتبت في مقال نشر في هذه الصحيفة بعد العمل الإرهابي الذي استهدف مجلس عزاء في قرية الدالوة واستشهد فيه عدة أشخاص: أنه يجب أن لا ينسينا فرحنا بالتلاحم الذي ظهر بين الشعب ووقفته المنكرة لذلك الاعتداء الغاشم، البحث عن المتسبب الحقيقي خلفه، وأنه يجب ألا نكتفي بالإدانة والتنظير والتضامن بالكلام العاطفي والمكرر بعد كل مأساة تنتهك الإنسانية وتستبيح دماء الآمنين، بل علينا التحرك بشكل عملي يحمي الإنسان والمكان من قادم مجهول لا يُتكهن به، خاصة ونحن على فوهة بركان من الفتن والاقتتال الطائفي المحيط بنا في الدول المجاورة. وأنه ينبغي أن تُسن قوانين عاجلة، صارمة وواضحة ضد التحريض الطائفي والعنصري بكل أشكاله ومن أي طرف، ففي فرض القوانين حلٌّ لكثير من مشاكلنا المتراكمة وضمان عدم حدوث الأسوأ مستقبلا.
وللأسف أتى هذا المستقبل أقرب مما نتصور لتطال يده الغادرة بيتا من بيوت الله علق فيه المصلون أرواحهم بين يديه لينتزعها الموت غيلة وهم آمنون في صلاتهم، متوجهون لقبلة يؤم المسلمون من كل بقاع الدنيا وجههم نحوها دون تصنيف أو تراتب يمنح أحدهم الأفضلية على الآخر، تناثرت أشلاؤهم الطاهرة بسبب جسد غادر اندس بين صفوفهم بالحيلة والغدر، مقدما جسده وحياته قربانا لحياة أخرى أُوهم أن فيها نعيما دائما له إن استهان بالدماء والأرواح.
ونحن نستعرض صور الحادثة الأليمة ووجوه الشهداء صغارهم وكبارهم، تقفز للنفس السوية التي آلمها هذا الإزهاق للأنفس والاستباحة للإنسانية عدة تساؤلات عن الدافع الذي جعل مثل هذا الشخص الإرهابي يتجرد من إنسانيته ومن دينه ومن الرغبة في الحياة حتى يؤذي الآخرين؟ وهو في هذه السن الصغيرة من الذي خلق لديه هذا التوجه وعزز لديه الرغبة في إراقة الدماء؟ وباسم أي دين أقنعه أن يفعل ما فعل؟ والتساؤل الأكثر وجعا: كيف وجد هؤلاء المسوخ بيئة خصبة لنواياهم وأفكارهم؟ وأي تمكين حصلوا عليه ليكون لهم معه ضمان انقياد أعداد كبيرة خلفهم كالقطعان؟ الإجابة صادمة، وتصيبنا في مقتل ظن الأفضلية الذي نعتقده على العالم والشعوب والمذاهب والطوائف والفرق الأخرى. هذه الحقيقة الصادمة التي يرفض الكثير تصديقها بأن أبناء الدين الواحد والوطن الواحد يتخلون عن إنسانيتهم ويستبيحون دم الآخر ليكون لهم طريقا للجنة بتحريض من نفس أبناء الدين والوطن.
بعد بيان وزارة الداخلية يوم السبت الذي كشفت فيه هوية منفذ التفجير الإرهابي في مسجد الإمام علي ببلدة القديح في القطيف أثناء أداء صلاة الجمعة وانتماءه لتنظيم داعش الإرهابي، وظهور قائمة بالموقوفين من المنتمين أيضا لداعش والمتضامنين معه الذين يقومون بتجنيد الأحداث والتغرير بهم وجمع الأموال لتمويل العمليات الإرهابية وترصد رجال الأمن والمواقع الحيوية وغيرها مما ورد في البيان، يتضح لنا أن البيئة التي انطلق منها ذلك الإرهابي ليقف بين صفوف المصلين يفجر نفسه ليست بعيدة ولا غريبة أو خارجية. ولو افترضنا جدلا ذلك، فجميعنا يعلم أنه لا توجد في شريعة داعش المنحرفة حرمة لدم مسلم أو غير مسلم ولا لرجل أمن أو مواطن آمن، ولا لمنتمٍ لحكومة عربية أو إسلامية، إلا من وافق هواه هواهم، وآمن بما يؤمنون به من تكفير وقتل وتقسيم وتحريض. فالجميع في أعينهم كفرة، وجميعنا مستهدف في أي فرصة يجدونها لتكرار هذا الفعل في جامع آخر أو تجمع مختلف، لن يثنيهم عنه إنسانية ولا دين أو وطنية. وخطوتهم الجريئة للدخول لأهداف مدنية بدؤوها بمسجد في صلاة جمعة، تصرف ينم عن تحدٍّ صريح وجرأة بشعة وقادم لا يُعلم كيف سيكون ما لم تكن للحكومة وقفة حازمة لتجفيف المنابع التي تستوعب من يحرض ويخطط ويهيئ المجرمين للقيام بمثل هذه العمليات.
أصوات الإدانة والاستنكار سمعناها على مستوى الحكومة والمؤسسات والأفراد – تماما كما كان أيام الدالوة - وتواصل الإنكار من الدول والهيئات الخارجية، وانبرى بعض من كان يحرض بالأمس، ويمهد في الأنفس الهشة الطمأنينة والارتياح لقتل من يختلف معهم أو إيذائهم، انبرى للتبرير والإنكار بعد حادثة القديح، بينما آثر آخرون الصمت. وأصوات العامة والعاديين في مجالسهم ورسائلهم الخاصة هي الوجه الخفي والحقيقي لموقفهم تجاه ما حدث وهي الأهم للالتفات لها ومحاولة تفهم مشاعرهم ومعرفة أسبابها وعلاجها، خاصة تلك المتضامنة مع ما حدث أو المؤمنة بأن لهم الحق في محاسبة الآخرين ممن يختلفون معهم ولو وصلت هذه المحاسبة إلى إزهاق أرواحهم غيلة.
أُكرر كما ذكرت سابقا: أن موقفا ضد الإرهاب ينبغي ألا يكون تسجيل موقف وحسب، بل تحرك عملي وواقعي تبدأه الجهات العليا. وأن نؤمن أن بداية التغيير تبدأ من أنفسنا ومن أبنائنا واختبار مشاعرنا تجاه من يُقاسمنا الإنسانية والدين والوطن، وننقي ما خالط فهمنا ومشاعرنا تجاه الآخر من تدليس المحدثين والمتطرفين، لنخلق مجتمعا سويًّا لنا وللأجيال القادمة يؤمن بقداسة الأرواح والأوطان ويتخذ من التعايش والسلام أسلوب حياة.
رحم الله شهداء القديح، وأحسن العزاء لذويهم وعزاء الوطن فيهم وفي من نال من أمنه وحماه من كيد الكائدين.