يسعى التنظيم الإرهابي المجرم "داعش" إلى ضرب استقرار المملكة من خلال محاولة بث الفتنة الطائفية بين السنة الشيعة، فشل التنظيم في المرة الأولى في حادثة "الدالوة"، وها هو يكرر المحاولة في حادثة "القديح" لعل وعسى أن تفلح مساعيه هذه المرة، ولكن هيهات فالمواطنون اليوم سنة وشيعة يدركون جيدا المساعي الإرهابية والإجرامية لهذا التنظيم في شق الصف السعودي الواحد.

لقد نجحت المملكة ممثلة في وزارة الداخلية في القبض على منفذي العملية الإرهابية في حادثة "الدالوة" في وقت قياسي، مثلما نجحت في القبض على المسؤولين في تفجير مسجد "القديح"، ولكن يبقى التحدي الأكبر في مواجهة الفكر الإرهابي الذي أنتج التنظيمات الإرهابية في البلاد العربية والإسلامية مثل داعش والقاعدة وحزب الله والحوثيين وبوكو حرام وغيرها.

فجميع التنظيمات الإرهابية تستند على الدين في ترويج أفكارها، وبالتالي الحصول على الأتباع والأموال، وتبرير عملياتها الإجرامية بالشهادة ودخول الجنة، والقتلى من الأبرياء في نار جهنم، فإذا أردنا قطع دابر الإرهاب واجتثاث جذوره، ينبغي علينا أولا مواجهة فكره بكل شجاعة وصراحة.

إن العنف والقتل عند الإرهابيين عبارة وسيلة تعبدية تستمد شرعيتها لديهم من الغاية النبيلة التي يتصورونها، وهي إقامة حكم الله على الأرض عن طريق الجهاد في سبيله، لذا يلجأ المتطرفون إلى الإرهاب والعنف وهم يعتقدون أن ما يقومون به إنما هو بإرادة الله، وعلى هذا الأساس لا يفكر الإرهابي الذي يقوم بقتل الناس وتعذيبهم في جسامة وشناعة وجرم فعلته، بل فيما سيناله في الآخرة من نعيم الفردوس الأعلى في الجنة.

فعلى سبيل المثال نجد في فتاوى بعض الفقهاء (سنة وشيعة) أمورا لا إنسانية ونصوصا عدوانية كثيرة مستمدة من التأويل أو التفسير الضيق للقرآن الكريم وسيرة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم المذكورة في أمهات المصادر التاريخية، ومن هذه الفتاوى والآراء الدينية تظهر المباني الفلسفية والفكرية والعقدية للإرهاب.

ولنأخذ بيان "داعش" الأخير في حادثة القديح كنموذج نستطيع منه استنتاج المباني الفكرية لهذا التنظيم المجرم، والذي جاء فيه ما نصه: ".. أصيب في هذه العملية زهاء (250).. تجمعوا في المعبد يشركون بالله ويسبون صحابة رسوله... قد أشرقت شمس الخلافة على منهج النبوة وشع نورها وفتح الله على يديها البلاد وقلوب العباد".. "لن يقر لجنود الدولة الإسلامية قرار حتى نحقق وصية نبينا ونخرج المشركين، كل المشركين من جزيرة العرب"!

ومن البيان السابق نلاحظ أن هذا التنظيم الخبيث يستغل العاطفة الدينية الموجودة في المجتمعات الإسلامية من خلال التركيز على مصطلحات مثل "الشرك"، "الخلافة الإسلامية"، "منهج النبوة"، "وصية النبي صلى الله عليه وسلم"، وذلك لتبرير عملياته الإرهابية وتحقيق أهدافه السياسية المتمثلة في ضرب استقرار المملكة وإثارة الفتنة في البلاد. وعلى هذا الأساس، فإن المباني الفكرية لهذا التنظيم تستغل الاعتقاد بأن الحقيقة واحدة مطلقة من خلال التركيز على التفسير الخاطئ لحديث "الفرقة الناجية"، فإذا اعتقد الإنسان أنه يملك كل الحقيقة وأن عقائده تتطابق مع الحقيقة وبالتالي فإن عقائد الآخرين باطلة وهم كفار مشركون بالله، فليس هناك مسوغ للتعايش أو التسامح مع الآخر، فهم يعرفون الحق ولكنهم يتبعون أهواءهم ويتبعون خطوات الشيطان، لذا يجب محاربة الباطل ونصرة الحق، وعليه يجب قتال أهل الباطل والقضاء عليهم وإخراجهم من جزيرة العرب لأنهم كفار مشركين.

بالإضافة إلى ما سبق ذكره، يستغل التنظيم الإرهابي الاعتقاد السائد بأن الحياة الدنيا ما هي إلا مكان للاختبار فقط وليتميز المؤمن من غير المؤمن وليس لها أية قيمة أخرى فيتم الاستهانة بالإنسان وحقوقه وحياته في هذه الدنيا، وهذه الأفكار للأسف موجودة في الفكر الديني السائد في المجتمعات الإسلامية سواء كانت شيعية أو سنية.

وبسبب هذه الأفكار والمعتقدات ظهرت التنظيمات الإرهابية، وبسبب إغماض أعيننا وعدم الالتفاف إليها ظهرت تلك القوى المنفلتة التي لا نعلم في أي دنيا وفي أي عالم تعيش، ويبقى بعض رجال الدين مصرون على تلك المباني الفكرية القديمة، وهذا الإصرار يزيد المشكلة حدة وعمقاً ويزيد من حالات العنف والإرهاب. إن القراءة الدينية التقليدية المنتجة للإرهاب والعنف هي حصيلة الفهم القديم للدين وليست ناشئة من الدين ذاته، وهنا تنشأ المعضلة التي يصعب ضبطها والسيطرة عليها والتي ترضخ لها المجتمعات الإسلامية.

إن حل هذه المشكلة يفرض علينا مواجهة هذا الخطر من موقع الانفتاح عليه ومواجهته من خلال التفسير العقلاني للنصوص الدينية وحقوق الإنسان، وترسيخ التعددية الدينية والتسامح في المجتمع، ومثل هذه المفاهيم لا يمكن ترسيخها إلا من خلال النقد والغربلة المستمرة للأفكار والتراث الديني.

فالتعددية تعني أن الحقيقة متعددة وكثيرة وأن كل إنسان أو دين يملك جزء الحقيقة لا كلها، فلا يصح قتال الآخر المخالف، لأنه ليس على باطل ولأنه لا يتبع الشيطان، والتسامح يعني أن كل إنسان مهما اختلف في الدين والمذهب يجب احترامه واحترام حقوقه بل يجب حبه وإسداء الخير إليه، ويجب احترام هذه الحياة وإعمارها واعتبارها أعظم نعمة إلهية على الإنسان.

والمجتمعات الإسلامية بحاجة إلى أن تعرف وتدرك المباني الحديثة لحقوق الإنسان والتعددية، وأن يكون التسامح الديني واقعيا وغير صوري يقوم على أساس الاختلاف في العقائد الدينية والمذهبية والثقافية، مع إشباع روح الإنسان بالرحمة الإلهية.. يقول الله عزّ وجل: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".

ويبقى السؤال: كيف يتم ترسيخ التعددية والتسامح في المجتمعات الإسلامية للقضاء على أفكار العنف والإرهاب؟.. أترك الإجابة للعلماء ورجال الدين والدعاة في جميع المذاهب والطوائف الإسلامية.