من السذاجة بمكان عزل العملية الإرهابية الشنيعة التي استهدفت المصلين في مسجد الإمام علي في قرية القديح في السعودية عن سياقاتها الزمانية والمكانية والإنسانية والدولية، إلا أنه من الحكمة أيضا توخي الحذر قبل إطلاق أحكام نهائية واتهامات افتراضية تستبق تحرر الصورة من ظلال اللحظة، وبين رفض السذاجة وتوخي الحذر سأتحدث عن الموضوع بلغة شرطية لا تدعي امتلاك اليقين.
الزمان تعرفونه كلكم، وهو صراع بين العرب والفرس، يراد له أن يتحول إلى صراع بين السنة والشيعة في المنطقة، المكان هو المنطقة الشرقية في السعودية، حيث النفط وحيث تواجدُ أتباع المذهب الشيعي، أما في العلاقة مع الإنسان والعالم فقد تم هذا الحدث المأساوي يوم الجمعة حين كان المصلون يتضرعون لربهم، وفي أجواء عاصفة الحزم التي قامت بها السعودية في اليمن لوقف التدخل الإيراني في شؤون الدول العربية.
إذًا نستطيع أن نستنتج بادئ ذي بدء أن المستفيد الأكبر والأول والرئيسي هو إيران وأذنابها في لبنان وسورية والعراق واليمن، ويبدو أن الهدف من هذه العملية نقل المعركة إلى داخل المملكة لإظهارها وكأنها مهزوزة من الداخل وإغراقها في حالة من الفتنة والفوضى التي قد تشغلها عن الدور الريادي والتاريخي المنوط بها إزاء مصير المنطقة العربية ككل، والذي تبنته منذ إطلاق عاصفة الحزم، يدعم هذه الفرضية المعتمدة على السياقات الآنفة الذكر عدة معطيات، سأختصر بعضها:
أولا: الممارسات الإجرامية التي ترتكبها الأذرع الإيرانية في المنطقة باتت معروفة للقاصي والداني، فقد ساند حزب الله اللبناني نظام الأسد منذ اليوم الأول للثورة، وساعده في عمليات القتل والتنكيل بالمعارضين السوريين، ومن اللافت أن الذراع اللبناني لإيران تخلى عن تقيته السياسية كليا، وأعلن أن مصير الأسد في سورية هو معركة حياة أو موت بالنسبة له، متناسيا حق الشعوب في التمرد ضد الاستبداد لنيل الحرية، ومشعلا شرارة الصراع المذهبي بين السنة والشيعة عبر استفزازات متكررة وخبيثة، أولها نشر عناصر من حزب الله لفيديوهات ذات طابع طائفي بغيض تحرض ضد السنة وتستفز مشاعرهم الدينية، والأمر نفسه تكرر في العراق على يد كتائب عصائب الحق وأبوالفضل العباس الشيعية، وتاليها النشر المستفز للأغاني والشعارات الحسينية في شوارع وأسواق المناطق السورية الخاضعة لسيطرة نظام الأسد، والذي يفترض أنه نظام علماني لا يقبل بهكذا ممارسات، والإعلان الوقح لمسؤولين إيرانيين عن أن سورية هي محافظة إيرانية، وليس آخرها القيام المؤكد لعناصر من حزب الله اللبناني والميليشيات العراقية المدعومة إيرانيا بمجازر وعمليات إرهابية ضد المدنيين الشيعة في البلدين ونسبها إلى داعش والقاعدة وأيضا إلى الفصائل السنية المعارضة والمسلحة، ما يجعلنا نقرأ بشكل جلي الرغبة الإيرانية في إشعال المنطقة في لهيب الفتنة الطائفية، وحرف الصراع عن مساره الحقيقي والمحق في ثورة الشعوب ضد الاستبداد إلى سكة أخرى خطيرة لا تخدم في مآلاتها سوى إيران والأنظمة المستبدة وأيضا إسرائيل.
ثانيا: حملة التحريض الواسعة التي سبقت هذا العمل إثر عاصفة الحزم والتقارب السعودي الفرنسي، والتي شملت مواقف وتصريحات لاذعة ضد السعودية من أخطرها ما جاء في خطاب حسن نصرالله قبل التفجير بأيام حين صرح بأن إسرائيل بممارساتها ضد الفلسطينيين أكثر رحمة من السعودية بسبب حملة عاصفة الحزم! وهذا كلام خطير لا يمكن تجاوزه ولا إخراجه من سياق التحريض العلني ضد المملكة وتجاهل كل تاريخها اليعربي، أيضا التصريحات التي أطلقها الرئيس الإيراني حسن روحاني بعد صفقة طائرات الرافال بين المملكة وفرنسا والوعود بعقود أخرى، حيث اتهم البلدان الغربية التي تقوم بعقود تسليح في الشرق الأوسط بدعم الإرهاب في دمشق وبغداد وصنعاء قائلا: "أميركا ودول أوروبية.. تفخر بأنها باعت وتبيع مليارات الدولارات من السلاح لهذه الدول، فيما يواجه الشرق الأوسط "القتل والتفجيرات والإرهاب".
ثالثا: تتزامن عملية جامع القديح مع حديث واسع النطاق عن عزم المملكة شراء سلاح نووي، وهو أمر سيغير قدر الأمة العربية برمتها، وقد لا تكون صدفة بريئة أن تفصل أيام قليلة بين هذا الإعلان والعملية الإرهابية الأخيرة.
رابعا: لماذا لم نر مطلقا أي عمليات إرهابية من داعش والقاعدة تستهدف شيعة إيران، فيما المستهدف هم دائما الشيعة العرب؟ وهل الدور الإيراني المؤكد في دعم التنظيمين الإرهابيين في العراق وسورية واليمن له علاقة بهذا الأمر؟
خامسا وأخيرا: في حال اقتنعنا باستقلال تنظيمي داعش والقاعدة عن اللاعب الإيراني، أليس تدخل إيران وممارساتها في الدول العربية هو أكبر راع ومحرض ومغذّ للتطرف ثم الإرهاب؟ وهل يمكن الحديث عن نشر الاعتدال في ظل التطرف في العنف ضد السوريين على يد النظام السوري المدعوم من قبل طهران والمولد حتما لردود فعل متطرفة من شباب عربي مسلم يشعر بالعجز وفقدان التوازن؟
ختاما، أثبتت المملكة ومنذ 2001 أنها قادرة على خنق الإرهاب في مهده، فقد كنست كل جماعات القاعدة في السعودية وشبه الجزيرة العربية على يد الأمير نايف بن عبدالعزيز رحمه الله، وأعتقد أن خلفه الأمير محمد سينجز المهمة التي بدأها والده مدعوما بالحزم العربي الممهور بتوقيع الزعيم العربي الجديد الملك سلمان حفظه الله. وفي جميع الأحوال لن يفلح الإرهاب في خلط الأوراق وحجب شمس الشعوب العربية التي قررت أن تثور ضد الظلم والفساد وضد التدخل الإيراني السافر في مصائرها، ولن تكون السعودية مهدا صالحا لتكاثر الفطر الطائفي، فالشيعة والسنة العرب السعوديون واعون لحجم المؤامرة، وهذه فرصتهم التاريخية كي يثبتوا للعالم أن الأوطان فوق جميع الاعتبارات الضيقة، وأن أرض الحج المبارك لن تكون محجا للعابثين والمخربين والقتلة.
شهداء القديح ليسوا شهداء السعودية وحدها، إنهم شهداء الأمة العربية كلها، فقد دفعت السعودية ثمن ثورتها لاستعادة كرامتنا العربية المسلوبة في وجه المخطط الفارسي، عزاؤنا أن الدماء العزيزة والطاهرة لشهدائنا، شهداء القديح، لن تراق مرتين: مرة على مذبح التآمر ومرة على مذبح سقوط القلعة العربية الأخيرة لأحلامنا التي أيقظتها "عاصفة الحزم".