لم يكن ما جرى في القطيف من العمل الإجرامي القبيح في "القديح" بمستغرب عندي، فكل المؤشرات تشير إلى أن المملكة العربية السعودية سوف تواجه في المستقبل مزيداً من التهديدات ما دامت قد أخذت زمام المبادرة في حماية الأمن العربي، وبعد "عاصفة الحزم"، فالأعداء الذين تواجههم المملكة يتفقون على منهجية واحدة وطريقة واحدة، وهي أنهم لا يمكن أن يعيشوا إلا في أجواء "الدم"، وها هي إيران وداعش في العراق واليمن وسورية تتنفس الدماء وتحقق ما تريد من خلاله.
الحديث عن بشاعة ما جرى في "القديح" كثير، والإنكار الشديد للأمر حصل من الجميع، وتحريم وتجريم الفعل اتفقت عليه كل المكونات الرسمية والشرعية والاجتماعية، ولكن الوقفة الحقيقية ليست متعلقة بالحدث ذاته، أي ليست متعلقة فقط بكون شاب سعودي يقطع نفسه إرباً ليذهب معه عشرات من الأبرياء المتوجهين للقبلة، بل متعلقة بالسبب الذي يجعل مثل هذا الشاب يفعل ما فعل؟ وكيف يمكن لإنسان سوي عاقل وينتسب للإسلام أن يتجرأ على القيام بمثل هذا العمل الإرهابي، ما هي العقيدة التي وجدت عنده تدفعه إلى هذا؟ كيف يمكن لجهة أو منظمة أو مجموعة أن تفعل هذا؟ وما الهدف الحقيقي لمثل هذا الفعل؟ وما المصلحة التي يتوخاها المنتسب إلى مثل هذه التنظيمات الإرهابية من هذا العمل الشائن؟ وكيف أمكن أن يؤثر في شبابنا ليكونوا بالعشرات والمئات وكلهم يحمل هذا الفكر؟ أسئلة كثيرة تحتاج إلى مقالات ومقالات لنستجلي إجاباتها ونحاول كشف الخوافي فيها.
إن قراءة ما حدث في "القديح" لا يجوز أن يقرأ من منظور "طائفي" ضيق، فإن كان المتطرفون يحاولون استغلال الحدث لإحداث مزيد من الاحتقان الطائفي فإن الحدث لا بد ألا يقرأ في معزل عن المخططات التي تحاك للأمة العربية والإسلامية منذ سنوات طويلة، وأن من أهم المنافذ الكبرى التي استطاع الأعداء اختراق البلاد وتفتيتها وإشغالها من خلالها؛ الضرب على النزاع الطائفي، ولا يتم هذا إلا بالجروح الغائرة التي تحدث في كلا الفريقين، فالدم هو الممهد لمزيد من الاحتقانات التي تؤدي إلى الاحتراب، فإذا ما صودفت هذه المخططات بالوعي والإدراك استطعنا قطع الطريق على أولئك الذين يريدون بنا الشر، وإن نحن انسقنا مع عواطفنا، وتناسينا القضايا الكلية الكبرى التي تراد بنا فنحن قد قدمنا لعدونا الخدمة على طبق من ذهب.
إن هذا السيناريو ليس جديداً، والشكل ليس مستغرباً على من يقرأ ما جرى في سورية والعراق ولبنان واليمن، وإن الدور آت إلينا لا محالة وبمثل الخطوات التي أهلكت المجتمعات من داخلها، فالمخططات محكمة وكبيرة، وما هؤلاء الأغرار إلا أدوات تسيرها قوى الخفاء والظلام، وتستخدمها أدوات لتمرير مشاريعها، ولذا فنحن في تحد تاريخي كبير، وأمامنا استحقاقات مرحلة مروعة، لا بد أن تكون مبادراتنا، واستراتيجياتنا، وحلولنا على مستوى الحدث وإلا فسوف نؤكل كما أكل الثور الأبيض.
وإن كانت المسؤولية كبيرة على الجميع فإنها على أهل العلم والوعي والثقافة والفكر الذين يجمعون في هذه الأحداث ولا يفرقون، ويصلحون ولا يفسدون، وكلمتهم لها آثارها في التصعيد أو في التهدئة، وكل استخدام للمفردات المستفزة، أو التأجيج القائم على التنوع المذهبي، أو خطاب التكفير أو الدعوة إلى القتل والقتال ضد المخالفين فإن هذا سوف يؤدي إلى مزيد من المشكلات الاجتماعية والمساهمة في تهيئة شعور الشباب لتلقي أفكار التطرف والغلو والإرهاب.