لا تزال ذاكرتي تحتفظ بالمكالمة الهاتفية، في أوائل سبتمبر عام 2001 للأستاذ قينان الغامدي، أول رئيس تحرير لصحيفة الوطن الغراء، يدعوني للمشاركة بالكتابة في الصحيفة المنتظر انطلاقها من مدينة أبها الجميلة. وكان للعنوان سحر ومعنى، شدني بقوة لركب القافلة.
مضى عقد، على الرحلة، ولم تكن الطريق سهلة، لكنه قدر الرجال، تذليل المصاعب، يسعفهم في ذلك نبل المقصد، واحتراف المعنى، وأخلاقية المهنة.
كان قدر صحيفة الوطن، أن تلتحق بغمار التصدي لمحاولة النيل من أمن واستقرار الوطن العزيز، منذ لحظة انطلاقها، على الأصعدة الوطنية والقومية. فلم يمض على صدورها سوى ثلاثة أسابيع، حتى انطلقت انتفاضة الأقصى الشريف، إثر قيام أرييل شارون بدخول الأقصى. وأثناءها كانت أخبار الانتفاضة، وصورة الشهيد الطفل محمد الدرة تغطي وسائل الإعلام العربية. ولم تتردد صحيفة الوطن، وهي لم تزل غضة بعد، في المساهمة، بقوة في الدفاع عن حق شعب فلسطين، في الاستقلال وتقرير المصير.
وبعد عدة شهور، شهد العالم عاصفة 11 سبتمبر عام 2001م، في الولايات المتحدة الأمريكية، التي جرى فيها تفجير مركز التجارة العالمي بنيويورك، وجزء من مبنى البنتاجون في واشنطن. ولم تكن إسقاطات الحدث وتداعياته، بعيدة عنا. فمنذ الساعات الأولى للحدث، كانت التهم صريحة، وكنا على رأس قائمة المستهدفين. حيث أعلن، أن الهجمات نفذت في الغالب من قبل مواطنين سعوديين.
واضطلعت "الوطن" بالدور الوطني المتوقع منها، دون وهن أو انفعال. تصدت الأقلام الحرة، لحملات الافتراء التي تعرضت لها بلادنا، بأناة وبصيرة. وكان الموقف واضحا من احتلال أفغانستان والعراق. انتقدت جل الكتابات، ردة الفعل الأمريكية، التي حملت موروثنا الديني، مسؤولية ما جرى. وأدانت عمليات الإبادة والقمع التي تعرض لها إخوتنا في الدين بأفغانستان، وأشقاؤنا في العراق، من قبل جيوش الاحتلال.
ولم يكن ذلك نهاية المطاف، فبلادنا أصبحت مستهدفة في أمنها واستقرارها. فقد بدأت عمليات الإرهاب والتخريب في عدد من مدن المملكة. ولأن للإرهاب مرتكزاته الفكرية، فإن المواجهة لم تقتصر على الجانب الأمني، وتدع المساحات الأخرى مكشوفة وقابلة للاختراق. وكان لكتاب "الوطن"، دور رئيس في التركيز على أهمية وجود مشروع استراتيجي، لمواجهة الإرهاب، يتخطى التشرنق في أوساط النخب المثقفة، ليصبح مشروعا وطنيا، يزج بطاقات الشعب كله في مواجهة الإرهاب. اضطلعت "الوطن" بالترويج لفكر التسامح، وقبول الرأي والرأي الآخر، ورفض الغلو والتشدد، وضيق الرؤية، متبنية الإيمان بالعلم، والتعايش مع روح العصر.
وقد دفعت "الوطن"، وكتابها أثمانا باهظة، وهي تتصدى بقوة للحملات الظالمة، التي تعرضت لها، لقاء تمسكها بالثوابت الدينية والوطنية. وكان عليها أن تدفع أيضا، لقاء موقفها من مرتكزات الإرهاب الفكرية والاجتماعية، غير آبهة بحملات التحريض.
ولم تتخلف صحيفتنا عن مسيرة الإصلاح، حين وضع حجر أساسها خادم الحرمين الشريفين، الملك عبدالله بن عبدالعزيز، فشاركت في تغطية أنشطة ملتقى الحوار الوطني، الذي تحول إلى منبر دائم، تناقش فيه القضايا الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية، التي تهم حاضر البلاد ومستقبلها. وأسهمت أيضا في تغطية انتخابات المجالس البلدية، ودعت إلى بناء مؤسسات المجتمع المدني.
واهتمت "الوطن" أيضا، بشكل غير مسبوق بالشأن الداخلي، حيث عمل مراسلوها في كافة مناطق المنطقة، على تغطية ما يجري، من أحداث بصدق وشفافية. بحيث أصبحت عنوانا وحقيقة، لوحدة هذا الوطن، ومبعث فخر واقتدار جميع أبنائه.
كما أسهمت "الوطن" خلال عقد من تاريخها في تخريج جيل جديد من الكتاب والمراسلين والصحفيين والمبدعين، الذين وجدوا فسحة واسعة على صفحات هذه الصحيفة، للتعبير عن آرائهم وأفكارهم بحرية، لا يقيدهم شيء سوى خوف الضمير، والحرص على تجنب ما من شأنه أن يسيء لسمعة الوطن، ولمعاني وحدته، وعزته.
وبالنسبة لي شخصيا، كان لي قبل تأسيس صحيفة الوطن شرف الكتابة في عدد من صحفنا المحلية، ولكن حضوري الحقيقي، على المستويين المحلي والعربي، ارتبط بانتمائي لصحيفتنا الغراء، وأنا مدين لها بحضوري، ومدين لها بالقراء الذين يتابعون كتاباتي، وأولئك الذين يتصلون بي شخصيا، أو يعلقون على المقالات التي أنشرها. ومدين أيضا للزملاء الذين أتاحوا لي فرصة مشاركتهم، في هذا العمل العملاق، منذ أول أسبوع صدرت فيه "الوطن" حتى يومنا هذا. ومدين أيضا "للفرسان المقنعين"، الذي يعملون بصمت، من أجل بناء وطن شامخ وأبي، ويشيدون إمبراطوريات المعرفة والفكر والثقافة. إليهم جميعا الامتنان والثناء والعرفان.
هنيئا للوطن، وتحية لصحيفة الوطن، بعد مرور عشر سنوات على تأسيسها، وشكرا لجميع السواعد التي أسهمت في تحويلها إلى أمر واقع، وحضور حقيقي في فترة قياسية قصيرة، وتحية اعتزاز وتقدير من القلب، لأسرة التحرير، التي تسير عمل "الوطن" بعزيمة وصبر واقتدار، وبانتظار عقود، زاهية ويوبيلات فضية وذهبية ومواسم ابتهاج وفرح. ولتستمر مسيرة "الوطن"، تطابقا واحترافا للمعنى الكبير: الوطن.