حين تفتح أبواب الجمال وتصغي إلي تراتيل الحسن، وما يقوله المطر الباهر لرذاذ الصبح ونعومة التلال وعصافير الضباب ومفارق الطرق، فاعلم أنك في "أبها"، تلك المدينة الهاجعة بين أضلاعك كالفراشة، العابرة في عروقك كهمس العشاق، النائمة تحت جلدك كأميرة الأحلام، و"لكن" علي ما يبدو أن هناك من يريد كنس هذا الجمال الفاتن، وهصر كل غصن مترع بالعبير وحكايا الحقول، وإزاحة رائحة السماء الخضراء التي تكسو جسدها الفاره، هؤلاء يصرون علي طرد طيورها الساكنة في أشجارها، وتهريب الظلال الناعمة من تحت بدنها، وسحق فراديس الخصوبة بضراوة الهجير والظمأ، لوحات علي الطرقات كطعم الحنظل تثير في داخلك الضجر والكآبة "لا مانع من رمي المخلفات"، أي وحشية هذه التي تسمح لك أن تبيد حقلا مزهرا بالاخضرار، وأن تطمر سنبلة تشبه سلالة أسلافك، وأن تتسلط علي بستان كان مبعث مسرات ومواسم أفراح، فلم تشح ولم تبخل عليك بثمرها ومؤونة عطائها، كانت لك الحنطة والماء والدفء والحصاد والنعيم والغناء الطروب والناس الطيبين، كانت انبلاج الصبح ومعطف المساء وثرثرة الغدير وجلال الأرواح المفعمة بالتقوي وسكينة الإيمان، وقفت ذات صبح جارح لأري تلك الآلات الشرسة بأسنانها الضخمة وهي تقضم وتدفن وتفتك وتجتاح ذلك الحقل المحزون، والغبار والصخور والمخلفات تداهمه وتحني رأس أشجاره، وهي تقاوم الفناء والموت وتشهق بالعبرات وصهد المصير المخاتل، بمن يستجير ذلك الحقل وقد تحول إلي تابوت ومرثية ليل طافح بالآلام وغرغرة آهات مفجوعة؟ هل أصاب اليأس والقنوط هؤلاء القوم، فظنوا أن فالق الحب والنوي لن يرسل السماء عليهم مدرارا؟ فتحيا عروق الشجر وبراعم النبات وضفائر الحقول، ويعود لمع البروق ورعشة الرعود وأنفاس السواقي وطقوس "السبرة"، وأرغفة الأرض وطروق الرعاة وفاكهة الصيف والشتاء واحتدام "الكظايم"، وهي تنسل بين جماجم العشب وطمي المزارع، لقد سولت نفوس هؤلاء القوم أن إعدام تلك الخضراء واستبدالها بدكاكين لبيع الخيام وأدوات السباكة، سوف تعوضهم عن ذلك الجسد المقتول والصورة الغضة والنطفة المتقدة تحت التراب، وذاكرة الأزمنة وخبايا السرائر وهواجس الدهر، فها هي سماء الله تعود لتغسل الآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر وسفوح الجبال، وها هو الطين الأليف ينتفض كالقطا ومهرة الروح، وها هو الفرج المأمول يبعث رسائله كذؤابات من عقيق لينهض صلصال الأجساد وينابيع الرواء وسقوف الحصون، "موت العصافير عند الفجر أبكاني.. ووردة الدار تنعي الحاصد الجاني، فللبساتين طقس حين تهجرها.. مواكب الطير يذوي زهرها الداني".