يقول أحد وجوهنا الحضارية المشرقة عضو هيئة كبار العلماء وعضو المجامع الفقهية الدكتور عبدالوهاب إبراهيم أبو سليمان في إجابته للزميلة "عكاظ" يوم 27 رجب 1436 عدد 17794 عن واقع العالم العربي والإسلامي ما نصه: "كثيرون يدركون الأزمة ومخاطرها ويكتبون في شأنها ويدركون أسبابها، فالحقيقة أن الله سبحانه وتعالى خاطبنا بالمسلمين والمؤمنين ولم يخاطبنا بانتماءاتنا الطائفية أو بمذاهبنا ونحن جميعا عربا ومسلمين ننطق بالشهادتين، فإن خضعنا جميعا باختلاف انتماءاتنا وآرائنا المذهبية لذلك التوجيه الإلهي الذي وحدنا الله به لسهل تجنب الصراعات والانزلاق في مخاطر الاختلاف، أما مبتدعو الصراعات الطائفية والداعون لها، يفرقون ولا يجمعون لأنهم على مبدأ "فرق تسد" ولعلكم تعرفون من هم وراء تأجيج تلك الصراعات، والمفترض أن يكون المسلمون أنضج وأوعى من الانزلاق نحو تلك الأزمات التي أدت وتؤدي بنا إلى مزيد من الضعف حتى تتغلب علينا الأمم الأخرى ويضعف حال المسلمين). انتهى كلامه.
وفي المقابل تماما نحاول أن نستذكر صفاقات السناني والمولد مع الشريان، ونزيد عليها رأي سليمان العلوان في كرة القدم وأن فيها تحاكم لغير شرع الله "ربما يقصد نظام فيفا"؟! كما ورد في أحد التسجيلات المنسوبة إليه.
هذه المقارنات والمفارقات ما بين عضو هيئة كبار العلماء الذي نشأ نشأة مكية، عريقة في مبناها، إنسانية في معناها، تستوعب كل الطوائف الإسلامية والفروقات الحضارية بين شرق وغرب فنراه ناشئا بين حلقات الحرم المكي طالب علم، ثم عالما يتنقل ما بين "أم القرى وجامعة هارفارد كأستاذ زائر وغيرها من الجامعات الغربية والإسلامية كجامعة بوسطن ونورث كارولاينا بأميركا والجامعة الإسلامية بماليزيا وجامعة مفيد في قم بإيران"، بخلاف الوجه المقابل لشباب أمسكوا حرفة الإيغال في الدين بالشدة، والتقعر الحرفي للمعنى الظاهر، والمغالبة في الابتسار والاجتزاء والإسقاط المباشر، وخلط حابل الفقه بنابل العقيدة فضلوا وأضلوا.
صراع عقائد أم صراع أفكار؟ إن كانت الأولى فالإرادة العقائدية المرتهنة للحماس تغلب الإرادة الفكرية برفع راية التوحش بالفتن والحروب وسفك الدم، والإرادة الفكرية تغلب الإرادة العقائدية برفع راية الأمن والسلام ونشر الرحمة والعدل. الإرادة الفكرية تبني المكتبات وترعى الفنون، والإرادة العقائدية ترعى المعسكرات وتبحث عن عدو ولو من بني جلدتها ترعى به نارها الموقدة لتصلي وتصطلي بها في زمهرير صلفها وعنتها الأعمى، بينما الأفكار تبحث عن مراكز متنوعة بتنوع مخرجات الحضارة الإنسانية، لإطلاق المواهب والملكات لترعى بها ثمارها اليانعة لغد مشرق.
العقائديون يبحثون عن أدوارهم المفترضة بين أشلاء الأطفال والنساء، وركام المنازل المهدمة، حيث تنتعش بضاعتهم، ويزهو سوق خطبهم ومواعظهم، أما أصحاب الفكر فلا يجدون لهم دورا سوى في برجهم العاجي الذي يفرضه الاستبداد عليهم كإقامة جبرية، بدلا من فاعلية تنويرية يخافها من يفجعهم حتى ضوء الشمعة حدَّ لعنها، بدلا من لعن الظلام، لكنها دروس الإلف والعادة يسقونها أتباعهم بعد أن ثملوا بها، وقد أصبحت طقوس عبادة.
من يتقن إيقاع الزمن الحاضر ويقرأ جغرافيا الواقع لا يمكن أن يطويه التاريخ، ومن يكرر أخطاءه يتجرع غصص البلادة، وكما قيل: "الخوف دليل على ذكاء العقل، أما الشجاعة فدليل على قوة العقل" ويبقى السؤال عن معنى التهور والحماقة؟! ولا إجابة إلا في سوء المنقلب وخيبة المصير، أما الخسة والدناءة فنتاج العقول بعد اغتصاب كرامتها.
نعم، للعقل كرامة تغتصب، وكرامته في إعمال "أفلا تعقلون، أفلا تتفكرون، أفلا تتدبرون" كدعوة للرياضة العقلية في أعلى مستوياتها، في كل لحظة، مع كل صوت، وكل منظر، وكل رائحة، وكل حس، ليقرأ كل لغات الأرض في صوت الطير ولحن الشادي، ولوحة الفنان، ولثغة الطفل، وتجاعيد جبهة لرجل عجوز، فعجبا لمن لا يرى ذلك، فيتحول إلى معادلات كيميائية وفيزيائية ومخترعات طبية وفنية وموسيقية وهندسية، فبدلا من أن يكون العقل مناط التكليف عندهم، تراهم يطعنون في العقل بأنه مناط التيه والضياع، فكيف تكون الحياة بدونه سوى لمجانين يتقاذفون نصوص الشرع بينهم لسفك دمائهم بينهم، وتكفير بعضهم بعضا كما بين "داعش" و"القاعدة" ومن سار في ضياعهما من الصامتين والهامسين؟!
الصين القديمة بنت سورها العظيم كي تحمي نفسها من الغزاة، لكنها غفلت عن التنمية في الإنسان ممثلا بحارس السور، فعاشت الحروب ولم يمنعها السور من غارات الغزاة، وتناست الصين آنذاك أن المال يبني جدران السور لكنه لا يشتري الأمن والسلام، وكذلك هو المال في كل مكان إذ يشتري السلاح لكنه لا يشتري الشجاعة، ويشتري الناس لبعض الوقت لكنه لا يشتري قلوبها، يشتري الجامعة بأساتذتها لكنه لا يشتري العلم، عيب المال الوحيد أنه يشتري القصيدة بل قد يشتري الشاعر فيحوله إلى ناظم، لكنه لا يشتري الموهبة، يشتري الكاتب، لكنه لا يشتري موقف الكتابة، وما يبلغه المسرفون بمليار، يبلغه ذوو العقل والحكمة بمليون، ولهذا فمن حقنا أن نقول إن السر ليس في "رش الفلوس" بل في "حسن التدبير" فالأولى يفعلها من لا يدرك ما يملك، باحثا عما يُبهِر، والثانية يفعلها من بلغ الرشد فيما يملك، باحثا عما ينفع، لأن "الإبهار" شرط الأنانية تبحث عن جمهور وأتباع، أما "النفع" فمطلب الشعوب على ألسنة المصلحين أملا في غد أفضل.