من أكبر الانتقادات التي وجهها الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل لرجال الدين في عصره عملية استغلالهم للطفولة وزرع أفكارهم الخاصة في عقول طرية ليست لديها القدرة على التفكير والتحليل. نحن هنا أمام استغلال مشابه للاستغلال المادي أو الجنسي أو غيرها من المعاملات التي يكون أحد الأطراف فيها غير قادر على تصور العملية واتخاذ موقف حر منها. فكما أن الطفل في الرابعة من العمر غير قادر على إجراء عملية مالية كالبيع أو الشراء، بمعنى أنه قد يبادل ورقة خمسمئة ريال بلعبة قيمتها ريال فهو لا يعرف للورقة المالية قيمة، وبالتالي فإن أي عملية بيع أو شراء معه غير تامة حتى يتم التأكد منها من قبل ولي أمر الطفل. على ذات المنطق تسير العملية التربوية، خصوصا في المراحل الأولى من التعليم، فإن العملية بين المعلم والطالب يجب أن تخضع لشروط صارمة وحادة تحمي الأطفال من احتمال استغلال المعلم أو المؤسسة التعليمية لهم.
من هذه المبادئ تحديدا تم وضع الكثير من الرقابات والمراجعات على العمل التربوي والتعليمي وعلى الأنظمة التعليمية للتأكد من عدم اختراقها من قبل أي تيار فكري أو أيديولوجي، من أجل الوصول إلى نظام تعليمي يحترم اختلاف المواطنين ومواقفهم الشخصية وبالتالي يقدم هذا النظام لأطفال المواطنين والمقيمين ما هو موضوعي ومتفق عليه إنسانيا من قيم وأخلاق وفنون، بعيدا عن أي شكل من أشكال فرض توجه فئة معينة على الجميع مما يعد جريمة تتمثل في استغلال نظام (عام) أو سلطة (عامة) كسلطة المدرسة لخدمة هدف أو توجه (خاص).
فكما أن المسؤول في وزارة معينة أو أي جهة حكومية (عامة) ممنوع من استغلال سلطته لأهدافه الخاصة، ويُعدُ هذا العمل جريمة، فإن نظام التعليم يجب أن يعامل بذات المعاملة وأن يجرّم من يحاول استغلال هذا النظام لتمرير أفكاره الخاصة واستغلال طفولة الطلاب لتحويل هذه الأفكار من أفكار خاصة إلى أفكار عامة تلحق الكثير من الضرر والأذى بالمجتمع والأمان العام. من هنا اتجهت أغلب أنظمة التعليم في العالم إلى تصميم أنظمة تعليم عامة تقدم لأبناء المواطنين والمقيمين معارف علمية موضوعية: كالعلوم والحساب واللغة إضافة إلى قيم أخلاقية متفق عليها: كالمواطنة والصدق والمحبة والنظافة واحترام الآخرين والحفاظ على البيئة ومساعدة المحتاجين إضافة إلى الرياضة والفنون حسب اختيار الطلاب وأولياء أمورهم. هذا ما يقوم به نظام التعليم العام أما ما يرغب أولياء الأمور فيه من الحفاظ على معتقداتهم الدينية أو هويتهم الإثنية وغيرها فإن المساحة مفتوحة أمامهم للاستفادة من المدارس الخاصة أو التعليم المنزلي أو الحصص الاختيارية في المدارس العامة.
إلا أن تحقيق هذه المعادلة ليس بالأمر السهل فالخطاب التربوي كما ذكر فيلسوف تربية فرنسي، هو خطاب أكثر أيديولوجية من الخطاب السياسي ذاته. وبما أن الناس اعتادوا الحذر من الخطاب السياسي فإنهم غالبا ما يتعاملون بثقة كبيرة مع الخطاب التربوي والتعليمي. ولذا فقد اشتغل الكثير من المفكرين والسياسيين بمراقبة الأنظمة التعليمية وتفحّصها من أجل التأكد من أنها أنظمة تحقق شرط المساواة بين المواطنين وتساعد في تحقيق الأمن والاستقرار للمجتمع بشكل كامل دون انحيازها لخدمة جماعة أو فئة معينة على حساب آخرين مواطنين لهم نفس الحقوق وعليهم ذات الواجبات.
في الاتجاه المحلي لم يخضع نظامنا التعليمي لعمليات من هذا القبيل فلا يزال التعامل مع هذا النظام التعليمي في الغالب على أنه نظام لتفريخ الشهادات المهيئة للوظائف، دون مزيد اهتمام بمضامين هذا النظام، ومدى تحقيقه لحقوق المواطنة، وعملية استغلاله من فئات محددة تحاول فرض أفكارها من خلال هذا النظام الإلزامي العام الذي يتم تمويله من المال العام. في السنوات الست الأخيرة بدأ الالتفات نسبيا إلى هذه القضايا ولكن حتى الآن لم تتحقق عملية فحص وغربلة حقيقية لعمل المدارس وبرامجها التربوية للتأكد من احترامها لحقوق المواطنين وبعدها عن تعليم أطفال المواطنين بالإجبار والإلزام أفكار الكراهية والتطرف والعداء مع الآخرين أو إلزام أطفال المواطنين بوجهة نظر فكرية أو فقهية واحدة خاضعة لرأي واحد ضمن آراء مختلفة دون مراعاة لما في هذا العمل من إلزام الأطفال بقضايا غير مهمة أو احتكار عقول الطلاب من قبل تيار محدد فيما يتم تهميش وجهات النظر الأخرى. بل إن بعض المقررات الدراسية خصوصا في العلوم الإنسانية من تاريخ وجغرافيا ودين قد قام بتأليفها شخص واحد أتيحت له الفرصة من قبل وزارة التربية والتعليم لتحويل أفكاره الخاصة إلى مقررات دراسية فُرضت على ملايين من الأطفال ومن يخالفها يُحرم من الحصول على شهادة تعليمية ويُحرم من فرصة التنافس مع أقرانه في المستقبل.
وزارة التربية والتعليم هي الجهة المسؤولة ابتداء عن عملية التعليم وهي الجهة التي يجب أن تتم محاسبتها ومساءلتها عن الأخطاء الفظيعة التي تجري في المدارس. هذه المحاسبة والمراقبة يجب أن تتم من خلال المواطنين أنفسهم باعتبار أنهم يأتمنون هذه الوزارة على أطفالهم.
نعلم أن مسؤولي الوزارة يخضعون للكثير من الضغوطات ولكن الوقت حان لكشف الوزارة للرأي العام وتحقيق شفافية ومراقبة دقيقة من الإعلام والمواطنين لما يجري داخل الوزارة من صياغة لوعي أجيال المستقبل وحسن تدبير لمليارات الريالات التي تصرف سنويا على أهم وأثمن ما في هذا الوطن: بناتنا وأبنائنا.