ماذا يعني أن يقوم التواصل بين الناس بناء على فهمهم بعضهم؟ وما معنى أن يفهم أحدهم الآخر؟

في المقالة السابقة تحدثت عن الانغلاق على الذات كأساس للعنف، باعتبار أن الذات العاجزة عن رؤية آخرية الآخر لا تعرف إلا تحويله إلى الذات كطريقة للتواصل.

هذا يعني أن أتواصل معك إذا أصبحت مثلي أو شابهتني إلى درجة كبيرة. الذات هنا غير قادرة على الخروج عن ذاتها والانكشاف للآخر ولغيريته.

هنا، الآخر كغريب وجديد ومفاجئ وغير مفهوم خارج الحسبة الذهنية والنفسية. التواصل المشروط بالفهم قد يحيلنا إلى هذه النتيجة: لن أتواصل معك إلا إذا فهمتك. ما دمت خارج فهمي فأنت خارج وجودي. هذه معادلة خطيرة باعتبار أنها ترد الوجود الإنساني المعقد والمتعدد إلى وجوده المفهوم بقدراته العقلية فقط.

هنا يفترض أن نحلل تصورين مختلفين للتواصل الإنساني. التصور الأول: هو التواصل من أجل تحقيق "فهم مشترك" والثاني: يفهم التواصل على أنه "العمل المشترك" للوصول إلى معنى.

تقسيمة شبيهة من هذه قدمها David Bohm في كتابهOn Dialogue. المعنى الأول يعني أن يتواصل البشر من أجل الوصول إلى فهم متفق عليه. إذا لم يحصل الاتفاق لم يحصل التواصل. هنا يبرز الاتفاق على أساس أنه غاية النشاط وهدفه الأساس. هذا النوع من التواصل عادة هو ما نفكر فيه حين نفكر في المفاوضات السياسية. المفاوضات ناجحة إذا وصلت إلى صيغة بيان مشترك. معدل الاشتراك هو ما يحدد معدل نجاح المفاوضات.

الانطلاق من غاية الوصول إلى هدف مشترك متوافق مع مبدأ الانغلاق على الذات، باعتبار أن نتيجة التواصل مشروطة بأن تتوافق مع ما أعرفه الآن أو ما يمكن أن يكون قابلا لأن يصبح جزءا من معرفتي.

الفهم مبني على الانتظام والتوافق. لتفهم شيئا جديدا لا بد من ربطه بالقديم. التواصل هنا يتأسس على نجاح ربط الجديد بالقديم. تحقيق هذا الربط يعني انضمام الجديد إلى القديم أو الآخر للذات. الذات المنغلقة على ذاتها قادرة على التفاوض مع الآخر بحسابات ذاتية. ما يتناقض مع انغلاقها هو التواصل دون حسابات ذاتية لها الأولوية. في المقابل الشكل الآخر من التواصل يتأسس على "العمل المشترك" للوصول إلى معنى جديد. الأساس في هذا التواصل هو الشراكة أو العلاقة الأخلاقية مع الآخر. ما ينتج عن هذا التواصل مفتوح ومتروك للتجربة التواصلية ذاتها. هذا النموذج قد يبدو غريبا على الذات المنغلقة على ذاتها، لأنه يجعل من الآخر غاية للتواصل.

الوجود مع الآخر، الطمأنينة أن التواصل معه لا يزال مستمرا، هي جوهر هذا الشكل من التواصل. من خلال الصورة الظاهرية على الأقل لهذا التواصل نستطيع القول إنه مفتوح على الجديد والغريب والمفاجئ وغير المفهوم كذلك، أو باختصار مفتوح على العلاقة اللامشروطة مع الآخر أو ما سأسميه في مقالات لاحقة: الضيافة.

شكلا التواصل أعلاه يمكن التعبير عنهما كالتالي: التواصل الأول يتأسس على أولوية الفهم. في المقابل التواصل الثاني يتأسس على أولوية الشراكة، أو بعبارة أخرى التواصل الأول يشير إلى أولوية المعرفة فيما يشير التواصل الثاني إلى أولوية الأخلاق. الأخلاق هنا تعني علاقة الذات بالآخر. التواصل الثاني يقوم على أولوية ارتباط الذات بالآخر بغض النظر عن ثمرات هذه النتائج. هذه الثمرات مهمة بالتأكيد، ولكن أهميتها تأتي في الدرجة الثانية بعد أهمية قيام العلاقة.

في المقابل، أولوية المعرفة تعني أن علاقة الذات بالآخر تأخذ قيمتها فقط من أنها وسيلة لإنتاج المعرفة. تلك العلاقات التي لا تنتج تلك المعرفة تختفي من الاهتمام. التواصل الأول مشروط بالشرط المعرفي فيما التواصل الثاني من دون اشتراطات.

إشكال التواصل الأول أنه قد يحجب الذات عن الآخر حين لا تستطيع فهمه. نلاحظ أن كثيرا من العنف البشري ينتج عن خروج الآخر عن مداراتنا للفهم.

في أوروبا، القرون الوسطى مثلا، كانوا يحرقون الساحرات باعتبار أن ما يفعلنه كان خارج دائرة الفهم في ذلك الوقت. التصورات الذهنية أخرجت تلك النساء من مجال التواصل، ما جعل العنف بديلا معقولا.

اليوم أعمال السحر مرت بتحولين: الأول، أنها دخلت ضمن دائرة الفهم باعتبارها ألعاب خفة أو خدعا لا أكثر.

التحول الثاني: وهو الأعمق، أننا لا نحتاج أن نفهم هذه الظاهرة لنقبل أن تكون جزءا من وجودنا. ما يهمنا أن نتأكد منه أن هذا السلوك لا يؤذي الآخرين أو يمنع تواصلهم. الطفل الغريب في المدرسة بعاداته غير المفهومة أو طرق تفكيره الغريبة مهدد بالعنف في أجواء التواصل التي تشترط الفهم للتواصل. عدم التواصل يعني العزلة والعزلة فيها عنف شديد للذات المتشوقة للتواصل مع الآخر.

لإيضاح أولوية الأخلاق على المعرفة، دعونا نتأمل العلاقات السابقة على الفهم. علاقة الطفل مع أمه في مراحلها الأولى نموذج على هذه العلاقات. الأم في الغالب عاجزة عن وضع هذه العلاقة في أفكار أو في تعابير لغوية، باعتبار أن كل فكرة عاجزة عن القبض على حقيقة هذه العلاقة.

في المقابل، الطفل غير قادر أصلا على بلورة علاقته بأمه في سياق ذهني واع، ورغم ذلك فإن كل ما يفعل يشير إلى جوهرية هذه العلاقة مع الآخر لوجوده هو.

كذلك في علاقاتنا مع الآخرين، هناك احتمال كبير أن يتصرفوا بطريقة لا نفهمها أو نتصرف نحن بطريقة لا نفهمها عن أنفسنا ونعجز عن إيصالها مبررة للآخر.

هنا، نحن أمام خيارات منها: أنا لا أفهمك وبالتالي لن أتواصل معك. أو سأتواصل معك على الرغم من أني لا أفهمك: يكفي أن أكون بجانبك. في المقالات اللاحقة سأحاول توضيح علاقة هذه المواقف بإمكان العنف.