كان الجراحون في منتصف القرن التاسع عشر يجرون العمليات الجراحية بأيديهم العارية، مبقين عليهم ملابسهم وأحذيتهم التي قدموا بها من الشارع، وكانوا يسمحون للجمهور بالالتفاف حول طاولة العمليات لمراقبة العملية الجراحية بكامل مراحلها.

أما ضماداتهم فكانت مصنوعة من النشارة المضغوطة الململمة من المعامل، وأدواتهم الجراحية لا تغسل بغير الماء والصابون، إذ لم يفكر أحد في تعقيمها حراريا أو كيميائيا حتى ذلك الوقت. أدت مثل هذه الأوضاع إلى رفع نسب الوفيات بعد العمليات الجراحية إلى معدلات هائلة بطبيعة الحال.

ظهر أثناء ذلك الطبيب "جوزيف ليستر" الذي تبنى نظرية الجراثيم المسببة للأمراض، وطالب بعمليات جراحية معقمة ضمن حملة مشهورة في تاريخ الصحة العالمي، وكما هو الحال دائما من معاداة الناس لما يجهلون، فإن مطالبات ليستر قد ووجهت بالسخرية من معظم أطباء الولايات المتحدة الأميركية، ولم تتلق ورقته المطالبة بذلك في مجلس فيلادلفيا الطبي سوى اللامبالاة، حتى ظهرت نتائج نظريته عمليا على يد "جوزيف لورانس" الذي باشر العمل في مختبره لتطوير سائل يقضي على البكتيريا متأثرا بأفكار ليستر، وقد تطورت تلك الجهود إلى ظهور شركة "وارنر لامبرت" التي سوقت لمنتجها المضاد للجراثيم المسمى "ليسترين" نسبة إلى السير ليستر.

وسرعان ما لاحظ الجراحون بعد استخدام السائل المذكور انخفاض نسبة الإصابة بالالتهابات والوفيات الناتجة عنها، فلم يصعب عليهم ربط ذلك بخاصية التعقيم لذلك السائل. وراحت الصحف تناقش بحماس آراء ليستر حول التعقيم وحول فعالية المنتج الذي تمخض عن أفكاره.

تكاد تكون هذه القصة متكررة جدا في تاريخ تطور العلوم والتقنية، ولكن هذا لا يعني أن البشر قد استوعبوا الدرس تماما، فما زال العالم يخسر كثيرا نتيجة مقاومة حركة المعرفة، تلك المقاومة النابعة من طبيعة متأصلة في الإنسان، ناتجة عن وهم ركونه إلى المألوف والتضحية في سبيل ذلك الركون المريح إلى خسارة كثير مما لا يدري بخسارته أصلا.

مشكلة المعرفة الحقيقية، أنها بخلاف احتياجات الإنسان الأخرى، لا يمكن تقدير قيمتها من أولئك الذين لم يعانوها ولم يسلكوا طريقها، فالمريض يميز قيمة الصحة وكذلك يعرف الفقير قيمة المال، ولكن الجاهل لن يستوعب قيمة العلم ما لم يذقه أو يلج أبوابه.

نستطيع تشبيه الأمر مجازيا بالعين ونعمة البصر، ففاقد اليد يستطيع رؤية ساعده المبتور، وكذلك بإمكان من فقد قدمه أن يرى النقص الذي اعترى أطرافه، ولكن الكفيف ليس باستطاعته رؤية عينه المنسملة أو حدقته البيضاء.

وكذلك الجاهل يفتقد إلى الوعي الذي هو الأداة الأصلية في تمييزه لما يفتقر إليه.

قد يجسد هذه المفارقة تلك القصة المروية عن حمامة أوت إلى شجرة فبنت على أغصانها عشها، ووضعت عليه بيضها ورعته حتى فقست أفراخها. ولكن ما لبثت حتى ظهر لها ثعلب ظل يصيح تحت ساق شجرتها زاعما بأن الشجرة ملك له، وأنها سطت عليها دون حق، مما يوجب تعريضها لعقابه، ويحتّم صعوده إلى عشها ليدمر تعدياتها علي ملكيته. فما كان منها إلا أن بدأت في استعطافه وتخفيف غضبته، فاشترط عليها مقابل ذلك أن تلقي له أحد أفراخها لتفتدي به البقية، فوافقت على ذلك آسفة مكلومة، وكذلك فعل معها في كرّة أخرى من نوبات غضبه في سبيل حقه المستباح المزعوم. وكان من الممكن أن تبقى تحت ابتزازه إلى ما لا نهاية لولا أن مرّت بها البومة الحكيمة التي لاحظت حزنها فسألتها عما ألمّ بها؟ فاستجابت الحمامة المسكينة لسؤالها، وسردت لها قصتها مع المالك الشرعي للشجرة، القادر على تحطيم بيتها وقتل صغارها متى شاء ذلك. فما كان من البومة إلا أن سخرت من بلاهة الحمامة، وفسرت لها كيف أن مخاوفها كلها ليست إلا وهما سخيفا، فلا الشجرة من حق الثعلب ولا هو قادر على تحطيم بيتها وقتل صغارها، بل هو أعجز من الارتقاء وتسلق تلك الشجرة! وطلبت منها أن تختبر صدق قولها بتحدي الثعلب عندما يمارس عليها تهديده في المرات المقبلة. وكما هو متوقع فإن الثعلب ما لبث أن عاد متوعدا ومطالبا بشراء هدوئه بضريبة متمثلة في إلقائها أحد فراخها عليه. ولكنها تحدته هذه المرة رافضة الاعتراف بمزاعمه وساخرة من ادعائه القدرة على تنفيذ ما يتوعد به. عندها لم يكن أمام الثعلب سوى أن دار حول الشجرة مرات عدة قبل انصرافه متحسرا على فوات غنيمته التي كان يوفرها له جهل الحمامة وغفلتها.

لم يكن على الحمامة أن تخسر اثنين من صغارها لو أنها لم تكن ضحية الجهل والخوف، ولكنها بطبيعة الحال لم تكن لتدري بإمكانية تجنب تلك الخسارة، وستظل تنزف خسائرها إلى أمد طويل تعتاد معه ذلك النزف حتى يصبح جزءا من حياتها لا يستحق أن تقابله بالشكوى، لو لم يقطع هذا كله ومضة معرفة تحول مسار حياتها.

ولكن من المهم أن نتساءل هنا: هل علينا دائما انتظار مرور بوم حكيم، وهل سنجعل البوم يعاني عند كل مرور كما عانى "جوزيف ليستر"؟