نشر الشاعر الشاب عبدالرحمن أحمد عسيري، على "يوتيوب" قصيدة عنوانها: "ثلاثون تبّاً"، وهي تشي بشعور الإحباط منذ العتبة الأولى، وهو المسيطر على معانيها، وما أوحت به صورها وألفاظها كلها.

القصيدة أحالتني إلى أكثر من نص، وإلى أكثر من مقال، فالعنوان يأخذني إلى مذكرات عبدالله السمطي: "ثلاثون قهرا.."، والتجربة الشعورية، والزمن الاستعادي يأخذانني إلى محمد زايد الألمعي في قصيدته: "يتهجى الطفل مراثيه".

مقدمة "ثلاثون تبّاً"، تبدأ بحرف عطف، إذ يقول عبدالرحمن:

وكان يظنُ بأنَ المدائنَ تسكبُ ماءَ الخطيئةِ في مقلتيهْ

...........

وأن الحقيقةَ فيهِ وما دونهُ إصبعٌ للخيالِ تشيرُ إليهْ

وفي البدء بالعطف إيحاء بأن للتجربة ما يسبقها من: الألم، أو الشوق، أو الحزن، أو الفرح، أو أي شعور، أو معنى، وقد يكون البدء به إيذاناً بالشروع في قصة شعرية، تستغرق القصيدة كلها، أو مقدّمتها فقط، وهو يعني أنّ الشاعر أمام حدث مجتزأ من أحداث حياتية كثيرة.

حرف العطف – في جل المقدمات – يكون سابقاً للأفعال، لا الأسماء، وذلك عائد إلى كون الأفعال هي الأقرب إلى السّرد القصصي، والاستهلال بالعطف يغلب على المطالع ذات الروح القصصية.

وبنظرة عامة، فالروح القصصية محققة للوحدة الفنية، وهي ساحة لغوية رحبة لتصوير التجربة من أكثر من زاوية، وهو ما عمد إليه عبدالرحمن عسيري، حتى تكررت الزوايا، فأصاب الترهل قصيدته في مواضع قليلة.

 الشاعر في مقدمة هذه القصيدة اعتمد على تصوير شعور كان في زمن مضى، هو زمن أحلام الطفولة، لكن السياق النصي يحيل إلى: القلق، والإحباط، وعدم تحقق الآمال، والرغبة في التمرد، ليعود إلى السخرية من أحلام البطل الأولى سخرية المعجب بها، والحان إليها، حين يقول:

ومازالَ يجلسُ فوقَ الرصيفِ/ الأليفِ يغني لحارتِهِ في النهارْ

 ويجمعُ أطفالَها ثم يحكي فيكذب "تلك ابنةُ الجارِ تعشقني دون حدٍ"..

ويا للخيالاتِ عند الصغارْ..

ويا للطفولةِ بعد غروبِ الحكايا..

رمى قلبَهُ في الطريقِ وعادَ إلى المنزل الحلمِ يهذي يموسق ما سيقول غداً من كلامْ..

 وفي ومضةٍ قبلَ أن يستبدَ المنامْ..

فعبدالرحمن لا يستحضر زمن الطفولة مجرداً من استشراف المستقبل، والحنق على الحاضر، ولا ينظر إليه بوصفه جمالاً خالصاً، بل يبحر من خلاله في عوالم من الخيالات، يستبطن بها النفس، فيبني الحاضرَ على الماضي حيناً، ويقطعه عنه حيناً آخر، وينظر في المآل الذي لم يكن من آمال الطفولة، حيث تحطمت الآمال على أسوار الواقع المُر، في زمن الانتهازيين والمتسلقين والخونة والوشاة.

الصورة الشعرية عند عبدالرحمن، تتجاوز الرسم اللغوي، لتصبح تعبيراً عن حالة من: الرفض، أو النقد، أو الاستهجان، حيث تتآزر الأفعال والصفات والأحوال، لترسم صورة بصريّة حركية، ورغم أن القارئ يشعر بأن الصورة مقصودة لذاتها، فإنها تصير وسيلة يوصل بها كلاماً غيرها.

لا بد من عودة إلى:"ثلاثون تبا"، لمقارنتها بـ"يتهجى الطفل مراثية"؛ لأن بينهما وشيجة خفية حييّة.