ربما كانت سطوة الناقد على المبدع سطوة قوية، حاضرة ومتخيلة، تجعل المبدع متوجسا وحذرا، ما يجعله يحجم ألف مرة عن نشر عمله الأدبي، مهما كان مقتنعا به.

وعلى الرغم مما قيل في العلاقة التوجسية بين الناقد والمبدع، إلا أن المبدع لا يستغني عن الناقد، لا سيما إذا كان الناقد بصيرا عارفا، ويحوز كل ما يؤهله ليتصف بهذه الصفة التي لم يحزها بحقها إلا القلائل، لأن عملية النقد عملية ليست سهلة، ويحكمها كثير من الشروط.

وعلى الرغم كذلك من إعلاء شأن المبدع على حساب الناقد أحيانا، إذ إن الناقد في تصور أصحاب هذا الاتجاه تابع للمبدع الذي يقدم النصوص، ليمارس الناقد عمله، إما واصفا أو مفسرا أو مؤولا أو مكتشفا، أو ما سوى ذلك من العمليات النقدية ومستوياتها المتعددة.

وحتى لا نسهب كثيرا في هذا الجانب من تلك العلاقة المترابطة ذات الاتجاهين المتوافقين، يجب أن نلقي نظرة موضوعية على كيفية عمل الناقد، إذ إن الناقد الأدبي ليس مجرد قارئ خبير وحسب، بل له عمل محدد وممنهج ومدروس.

وحتى لا يتشعب الحديث ويطول إطالة مملة، أحب أن أوضح أن النقد مختلف متنوع باختلاف المنهج الذي يسير عليه الناقد، ومع تعدد تلك المدارس النقدية القديمة والحديثة إلا أن النقد مهما كان موضوعيا وادعى العلمية والمنهجية إلا أنه لم يستطع التخلص من الذائقة الفنية الذاتية للناقد، فالناقد في نهاية أمره قارئ أيضا، ولا بد أن ينفعل بما يقرأ، مهما كان من أمر الحكم النقدي الذي سيتوصل إليه!.

وفي ما سبق تلميح لشرطين أساسيين في عمل الناقد، وهما المنهجية، والذائقة الفنية المدربة، ومنهما ينطلق إلى النص وفضاءاته المتعددة، وهنا يمكن أن يقع الخلاف في كيفية تناول النص، فكيف سيتفق ناقدان، أحدهما يؤمن إيمانا نقديا بنظرية "موت المؤلف" مثلا، وناقد اجتماعي يرى أن النص انعكاس لحياة مؤلفه؟، فالأول مكتفٍ بالنص ولا يستعين بمؤثرات خارجية لا يراها في النص، ولا يحاول تفسيرها وربطها ربطا عضويا أو غير عضوي، وأما الثاني فلا يرى النص إلا صورة صاحبه بدءا من اللغة والمفردات المكتسبة وأثر البيئة الاجتماعية، والأحداث السياسية عليه، فعلى الرغم من اهتمام الناقد بالنص هنا، إلا أنه لا يفتأ يشير إلى تلك العوامل الخارجية، ويفسر النص بناء عليها، فلا يلتقي الناقدان في الطريقة ولا في الأسلوب، وربما وجدت تبريرا أو تفسيرا لبعض القضايا المختلفة جدا قد تصل إلى حد التعارض، وقل الشيء ذاته فيمن يتخذ البنيوية أو التفكيكية منهجا، أو من يستعين بنظريات علم النفس، فيفسر النصوص تفسيرا نفسيا.

وتجاوزا عن هذه القضية إلا إن الناقد مهما كان منهجه لا بد وأن ينظر إلى جملة من القضايا التي تشكل الأدب، فسوف يعود كل ناقد شاء أم أبى إلى تلك الثنائية المعروفة قديما وحديثا، الشكل والمضمون، أو اللفظ والمعنى، ولا بد أن ينظر كل ناقد مهما تعددت مشاربه واتجاهاته إلى ذلك الترابط بين هذين الجابين، ومدى اتفاقهما معا ليؤثرا في القارئ، إذ إن مهمة الأدب الأساسية ليست تعبوية ولا وعظية إرشادية بالدرجة الأولى، ولكنها وجدانية، تدفع بالقارئ للمشاركة أو اتخاذ موقف طوعي تجاه ما يقرأ، فالأدب لا يلقن، وعليه فإن الناقد يكشف في كل تلك المناهج عن هذا التأثير والأدوات المستخدمة إبداعيا في ذلك.

ومن جهة ثانية لا بد للناقد من أن يكشف عن تلك العلاقات النصية والفكرية التي تحكم النص، والإحالات الأخرى لنصوص سابقة، إذ إنه كما يقرر النقد الحديث لا نصّ بريء مطلقا من نصوص الآخرين، فأنا هم، شئت أم أبيت، ولا بد أن يتناسل الآخرون في لغة النص إما أشباحا يلوحون من بعيد وإما أن تصبح النصوص السابقة شواخص دالة على نفسها، وعلى الناقد أن يكشف عن هذا الجانب من جوانب العمل الأدبي، ليرى موقع المبدع من الحركة الإبداعية، مضيفا بصمته الخاصة التي تعطيه حق التميز الإبداعي، أم إنه مجرد هاوٍ يصف الحرف بجانب الحرف ليشكل بنية نصية متهاوية معنويا وشكليا.

وربما يحسن أن أشير أيضا إلى مهمة الناقد الأخلاقية الإنسانية العامة، بمعنى المسؤولية عن تحسن شروط العمل الإبداعية، فالمواظبة والاستمرارية تجعلان الناقد متطورا وباحثا عن كل جديد، وعليه رصد المشهد بتفاصيله كافة، ويعيش الحدث الثقافي وارتباطاته، لأن النقد ضروري ضرورة الكتابة نفسها، فتحسين الشروط الإبداعية ورفع مستوى ما يكتب هما مسؤولية الناقد أولا ثم المبدع الذي يتربص بالناقد، ويريد منه كلمة حق يستحقها في نص يستحق أن يقرأ ويؤثر في الوجدان العام والذائقة العامة، وليس مؤثرا في الناقد فقط!