جي دي سالنجر، صاحب الرواية العجيبة "الحارس في حقل الشوفان"، الرواية التي تتحدث عن زيف المجتمع الأميركي، تحديداً في نيويورك، كان قد نشرها عام 1951 وأخذت صيتاً مدوياً، وبعد عامين فقط هرب سالنجر واختفى عن الأنظار، "اشترى عام 1953 بيتا في منطقة كورنيش، في نيو هامبشاير، واختار العيش في عزلة، ولم يعط سوى مقابلة أخيرة عام 1980".. هذا بحسب البي بي سي. مات الرجل قبل 5 سنين ولم تكن تربطه بعائلته سوى مراسلات من حين لآخر، بلغ الخامسة والتسعين ولم يقبل أبداً أن يكتب أحد عن حياته، وحاول اعتراض كل الذين فكروا بذلك عبر القانون.

الروائي الآخر صموئيل بيكيت، قرأت مرة أنه في لحظة ما غادر بيته ليقضي ما تبقى من حياته في الفنادق، من غرفة لأخرى، حتى وجدوه ميتاً ذات يوم في إحداهن. صموئيل لم يغادر بيته فقط، بل غادر حتى لغته، وحين سألوه لماذا تكتب بالفرنسية بينما أنت إنجليزي، قال إن الفرنسية هي لغة الأسلوب. لكن رجلاً غادر بيته وغادر لغته، ربما كان مشغولاً بالانزواء والبعد ومفارقة الحياة الزائفة التي لا يحمل ناحيتها ذلك الرضى، ليلجأ لمكانٍ آخر. تشارلز بوكوفسكي فعل هذا أيضاً، ترك كل شيء، وعاش حياةً فظيعة، أصيب بمرض نادر من حبّ الشباب، جعل وجهه في غاية الدمامة، إضافةً لكونه شتّامٌ وغاضبٌ كبير، فقد وجد في الحياة الليلية عالماً أكثر حقيقة، أخيراً تعرّف على مومس تشبه فكرته عن الزيف والاحتجاج، واختارا أن يعيشا معاً من بيتٍ لبيت، ومن فندقٍ لآخر، حتى مات. بوكوفسكي نفسه قال مرة: "لا أحب حياة البشر، لا أحب أن أكون بالقرب منهم، حتى إن أحدهم إذا لمس كوعي في الزحام فإنني أنتفض". يمكن أن تجد هذا أيضاً في الرواية الصغيرة الكبيرة "ميتتان لرجلٍ واحد" لجورج أمادو.

لا حدّ للأمثلة، لكن الذي يجمعها كلها هو هذه الأقاصي النفسية، تجمعها الرغبة الجارحة في الانزواء، الانزواء الذي يدفعك لمواجهة الآخرين، ويجعلك شرساً وعدوانياً، وفي أحسن الأحوال صامتاً وبعيداً، لأنك في عبء الاحتجاج على الحياة، بوصفها المادي البشري البغيض والمخادع، يجمعها هول الحقيقة ورهبة الفنان منها، وتعامله الإنساني المكتمل معها. حيث تبدو اللياقات والمجاملة، والضوء والمناسبات العامة، والتأنق في الكلام والمشاعر، تنميق الأكاذيب وتجميل الظلم والظالمين، ضرباً عاتياً من ضروب النفاق اليومي السائد.

الشاعر العربي، الأحيمر السعدي، قال مرة: "عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى.. وصوّت إنسانٌ فكدتُ أطيرُ". نعم.. بالضبط!