لم يتخيل الزعيم القومي جمال عبدالناصر أن يُداس العلم الذي وحدَ القطرين الشقيقين سورية ومصر بين عامي 1958 ـ 1961، ويتحول إلى رمز للاستبداد السياسي وآلة القتل الأسدية منذ انطلاق الثورة السورية قبل أربعة أعوام، تمكن فيها النظام بمهارة شيطانية من هدم أي مسافة منطقية ممكنة بين العقل والتطرف في أحكام القيمة وردود الفعل لدى عموم المعارضين الذين أسماهم "جراثيم وإرهابيين" وعموم المؤيدين الذين "يصونون عرض الوطن".
إبراهيم هنانو وصالح العلي والسلطان باشا الأطرش لم ينجوا، بدورهم، من معمعة الجنون هذه، بعد أن أقر مؤيدو النظام إعدام علم استقلال سورية إثر جلاء المستعمر الفرنسي واعتباره علم الانتداب وعلامة فارقة ومسجلة لخيانة المعارضة "الجرثومية والعميلة" ذاتها.
المفارقة أن كلا الفريقين "الجراثيم والشرفاء" كانا يعيشان تحت السماء نفسها ويُحَييَان علم الوحدة نفسه ويمجدان ذكرى علم الاستقلال نفسه، ويحفظان صما عن ظهر قلب نفس دروس الوطنية والتاريخ والتربية العسكرية والمنطلقات النظرية والعملية لحزب البعث العربي الاشتراكي الموؤود على يد مافيا الاتجار بالعروبة والمواطن، ويخرجان في مسيرات التأييد الحاشدة و"العفوية" لـ"الرئيس المفدى".
من يعرف سورية خلال أربعين عاما سبقت عام ألفين وأحد عشر يعرف ألف سبب يستدعي ثورة السوريين على النظام، وأيضا ألف سبب يبرر اعتبار جرأتهم على القيام بثورة شبه معجزة وضربا من الخيال المجنون، فبين العلمين المتخاصمين "الاستقلال والوحدة" حكايات ومآس وأوجاع وسجون وأعلام كثيرة عُلِقت وشُدَت على رقبة المواطن قبل أن تعلق في المناسبات "الوطنية"، في الساحات العامة، قرب النصب التذكارية "للقائدين الأب والابن"، على واجهات الأبنية الحكومية والخاصة المتاجرة بالوطنية، في أعراس المسؤولين وحفلات طهور أبنائهم وجنازاتهم، أثناء مباريات كرة القدم المحلية، أثناء مشاركة الفريق السوري القليلة في مباريات عربية أو عالمية، إثر الفوز النادر للفريق السوري في التصفيات، عند وفاة الأسد الأب، عند استلام الابن الحكم، عند تجديد البيعات، عند اختيار أعضاء مجلس الشعب ديموقراطيا على قياس الحكومة، عند أداء لصوص مجلس الشعب اليمين الدستورية، وأثناء اجتماعاتهم الهزلية تحت قبة البرلمان الغارق بدم الشعب، تحت سقف خيم التأييد المنافقة الممولة من تجار الوطن، على واجهات محلات الفلافل وفتة الحمص والألبسة النسائية، ونادرا على بقايا أصرحة وأضرحة رموز سورية الوطنية الحقيقية والمتضائلة أمام سطوة وحضور "مدرسة القائد الخالد" في كتيبات طلائع وشبيبة البعث واتحاد طلبة سورية ونشرات المؤسسات الحكومية، والهواء الثقيل لمدينة لم تسلم حتى حماماتها العامة من شعارات الولاء والمراءاة والتبعية العمياء والتأييد قبل الثورة من قبل معظم السوريين، وبعدها من قبل معظم المؤيدين.
لم تتحدث وسائل الإعلام كما ينبغي عن علاقة علم سورية قبل الثورة بالوحدة بين مصر وسورية أو ربما تحدثت، إلا أن أجيالا سورية كاملة بدأ تاريخها منذ فَجر الحركة التصحيحية "المجيدة" بقيادة "السيد" الرئيس حافظ الأسد، لم تكن تأبه أو لم تلاحظ شكل العلم أو دلالاته أو تاريخه طالما أنه يرفرف إلى جانب وجه "القائد التاريخي" الحالم بزرعه على هضبة الجولان مجددا بما أن الأحلام لا تكلف رصاصا، والمواظب على صرف الرواتب الشهرية للمواطن اللاهث وراء لقمة الخبز و"الحيط الحيط يا رب السترة" حتى لو كان الحائط مبنيا فوق تلة من الجثث والولاءات البعثية التي لا يأتيها الباطل لا من خلفها ولا من أمامها.
لم تتحدث وسائل الإعلام كما يجب عن علم الاستقلال أو تحدثت، إلا أن أجيالا كاملة من السوريين بدأ تاريخها منذ حرب تشرين التحريرية ودحر أسطورة العدو الإسرائيلي على يد "بطل التشرينين" وحده دون غيره من القادة العرب لم تكن تأبه أو لم تهتم بقراءة التاريخ خارج الكتب المدرسية المقررة طالما أن الثقافة تجلب وجع الرأس وتدفع بمحبيها إلى السجون وتفتح عيون النعجة على جهل القطيع، وطالما أن قراءة الكتب اللامدرسية لا تطعم خبزا ولا تؤمن عملا بما أن كل المثقفين شحادون وطالما أن "الأب القائد" يحمي العرض والحدود والجغرافيا والتاريخ والمسجد الأقصى وقبة الصخرة والنسل العربي المدجن من المحيط إلى الخليج ويريح رؤوس مواطنيه من هذه الاهتمامات الثقيلة التي تصلح فقط لرجال الدولة العظماء.
ليس ذنبا ولا عارا أن السوريين نسوا أن علم سورية على مدى عقود هو علم الوحدة واتهموه بالاستبداد حين أرادوا شتم النظام وأنصاره، ولا خطيئة أنهم خلطوا بين علم الاستقلال وعلم الانتداب واتهموه بالعمالة حين أرادوا شتم الثورة، فللجريمة مخططون ومنفذون حذقون تلاعبوا بمعنى العلمين الوطنيين على مدى عقود عبر تشكيلات فكرية وجدانية وبصرية شوهت كل المعالم لصالح وجهين وحيدين واضحين: الأسد الأب ثم الأسد الابن، وتلاعبت بضمائر وعقول السوريين تماما، وإنما بشكل أعمق، مثل تلاعب التلفزيون السوري الوحيد في البلاد على مدى أربعين عاما بصور العلم الممزوجة بالوجهين نفسيهما عبر الفوتو مونتاج والحيل البصرية.
أنا بنت الثورة ولن أتخلى عنها ولو تخلى العالم كله، إلا أن السجال الذي أحدثه غياب علم الثورة عن المؤتمر الصحفي الذي جمع رئيس الائتلاف الوطني السوري خالد خوجة برئيس تيار بناء الدولة لؤي حسين قبل أيام والهجوم على علم سورية قبل الثورة، فيما السوريون يذبحون يوميا، وفيما تُرفَع الرايات السوداء من جهات ظلامية أثار حفيظتي.
فلا العلم الأول علم آل الأسد ولا العلم الثاني علم الانتداب الفرنسي، هما تاريخنا وذاكرتنا وسوريتنا التي سنؤسس عليها عقد دولة الحرية والكرامة أيها السوريون.
فتوقفوا عن قتل شهدائنا في قبورهم ولا تدوسوا تاريخكم، فلأبنائكم ذاكرة لن ترحمكم إن أنتم استمرأتم الفوتو مونتاج الآثم.