لا شك أن هذا التقدم التكنولوجي لم يسهل حياتنا فقط، بل منحنا فرصة رؤية جزء من واقعنا ونتمكن من إعادته آلاف المرات؛ مما يقود إلى إيجاد لحظة محاسبة ليست فقط لما حدث في المشهد بل لتبعاته أيضا.

شاهدت مثل غيري غضب السيدة الخليجية من فنانة عربية يبدو أنها لم تجد حرجا في قياس ملابسها أمام الناس، لكن السيدة غضبت واستنكرت، لكن غضبها المبرر دينيا في الواقع لم يبرر على مستوى المسؤول الحكومي الذي اعتذر وندد وهدد ووعد بمعاقبة الخليجية على ردة فعلها الغاضبة.

لا أعرف إذا كانت السيدة توقعت هذا الرفض لموقفها من المسؤول أم لا، لكنها سيدة من مجتمعاتنا الخليجية التي يعتبر فيها مدح الأفراد هؤلاء الفنانات والمذيعات والتغني بهن حدثا عاديا يقابله موقف مناقض مع الزوجات؛ حيث تستمع للغة التحقير والتهميش ونكات السخرية والمقارنة الظالمة بين الزوجات والفنانات والمذيعات، بل يمتد الدعم إلى الدعم المادي عبر شركات الإنتاج والقنوات التي يملكها خليجيون كذلك الذين يقودون حركة الوعي في الخليج؛ مثل المثقفين والوعاظ الذين سمعنا عن هداياهم للمذيعات ولم نسمع لهم أو نرى موقفا واضحا في حق المرأة الخليجية في تقرير مصيرها حتى لو كان مجرد لون عباءتها من هذا الانقلاب والازدواج في المعايير والتسلط الممنهج ضد الزوجات.

والانفتاح مع الفنانات ليس وليد اليوم، لكن له بعده التاريخي؛ فبحسب ما يؤكد بعض دارسي التاريخ الثقافي للحضارة العربية، فإن ما حدث من انقلاب في التعامل مع المرأة إبان العصر العبّاسي، كان له علاقة بحركة الفتوحات وتأثير شيوع اقتناء الإماء والمحظيات بين رجال ذلك العصر؛ حيث نشأ عن هذا الوضع تعامل الرجل بانفتاح على التمتع بما قد يناله من أولئك الإماء، فبادر إلى تزيينهن بأثمن اللباس وتدريبهن على أفخم الفنون، بل والمفاخرة بما يستطيع الحصول عليه بواسطتهن من لذيذ الترف والمتعة. ولكن هذا حدث متزامنا مع بدء ميله إلى التسلط على حركة ما تحت يده من نسائه الحرائر وإحكام حجابهن، فقد شدّهن إلى قيوده تحت عنوان الصيانة للشرف الرفيع، ورمز بإبعادهن عن الأبصار إلى ما يملكه من علو المقام وهيبة الجانب.

إن هذه النظرة المزدوجة إلى صنفين من النساء لم يكن يعرفها العربي قبل ذلك العصر، فهو الذي ما فتئ ينظر إلى المرأة بعين البساطة كجنس يقترن به ويشاركه المصير في الصحراء العربية، وليس شيئا تحت حوزته يستطيع بما يملكه من سلطة اقتصادية أن يصنّفه إلى أداة للمتعة وأخرى لتأصيل النسل.

وقد يلحظ مثل هذا التحول في النظرة إلى المرأة من خلال تتبع النصوص الشعرية على سبيل المثال، ورصد ما تمثله المرأة من قيم تلوح في تلك النصوص، وتكفي في هذا المقام ملاحظة بسيطة وهي أن ظاهرة الغزل بالزوجة والحوار معها كعاذلة أحيانا أو كمحفزة للثناء في أحيان أخرى، تلك الظاهرة التي كانت تعجّ بها نصوص الشعر العربي حتى العصر الأموي اختفت تقريبا في العصر العباسي المترف، فتكاد ترى الشاعر يتغزل في كل نساء العالمين عدا زوجته! هذا مشابه تقريبا لما حدث في سياق اقتصادي ثقافي آخر، وأعني ما حدث في ذهنية رجل الخليج العربي بعد تدفق عوائد الطفرة النفطية، المشابهة في تمحورها الذكوري لعوائد الخراج في العصر العباسي، وقد يكون لهذا دور في الأثر المشابه في طريقته الذهنية في النظر إلى المرأة، وقد يفسّر هذا تكرار نفس الظاهرة الشعرية، فلعل هناك من لا يزال يحفظ غزل شعراء حقبة ما قبل النفط بزوجاتهم، والأمثلة أشهر من أن تحصى، ورغم ذلك فنحن الآن نشهد حقبة الشاعر النبطي الذي يتعب الحلاق في تهذيب سحنته ليتغزل بكل امرأة يعرفها أو يجهلها سوى زوجته، التي قد تكفي أي إشارة نحوها ولو بغير قصد ليشعر بالخجل وكأنّ جرما ما قد حدث.

ولعلّ لهذا علاقة بتمتع الرجل الخليجي.