الصديق "عبدالرحمن أبوملحة" لم تستطع درجة الماجستير التنظيمية والإدارية من أميركا أن تثلم ذاكرته، أو تهزم جوهرانيته أو تبعثر أحاسيسه ومشتهياته، فاندفع في رهافة وعذوبة وحيوية، يلتقط ما استقر في سلال العمر ومناديل الذاكرة وقنطرة الأيام، يدون ما انصهر في العروق وما انسكب في الجذور، وما همد في بواطن الأشياء وسوافي الدهر، في سلسلة "الماضي الجميل" وفي جزئه الثاني أورقت أصابعه كقطرات الندى، لتجوس في الطرقات والأحياء والوجوه وما تحمل الأرض في جوفها، وما تكتمه من أسرار فاتنة ليصعد بها كساقيات الحقل وعبير الحنطة، ويوقظ في ضلوعنا قناديل العشب، وأعراس اللذة الوارفة، ومعاطف النسيان المتخثرة في أعماقنا. قرأت "موجان ذاكرة المكان" فوجدته يمارس الحفر على الرمز اللغوي المشتق والمكتسب والمتلازم بين الإنسان ومعجم الأرض، وما تختزنه من منظومات ومفاهيم معرفية، دون الالتفات لحواضنها ومعانيها في بطون المعاجم ومواريث النحاة، انتصارا للأرض وتجلياتها اللغوية، والتواشج ما بين أبجدية "ديرته" وإنسانها المتحضر، ولذا وضع عبدالرحمن الكلمة ومعنى وجودها لتستأنس بها الأجيال، وتعي مصاغاتها ودلالاتها قبل الانمحاء والاندثار مثل "الخلبة" خليط من الطين والماء يرش عليه القليل من "التبن" ثم يخلط بشكل جيد حتى يصبح متماسكا يشد بعضه بعضا ليكون مادة للبناء. "السطاع" كلمة تطلق على العمود الذي ينصب وسط الغرفة ليحمل ويحمي السقف من السقوط، وعادة ما يكون من الأشجار القوية كالعرعر والطلح، "التشانيق" وهي على شكل دوائر تصنع من الخوص، تشد بها المرأة "القربة" على ظهرها، "المزبا" قطعة من جلد الماعز أو الخروف يوضع فيه ويحمل الرضيع. "الصلل" مكان صغير في ركن غرفة القهوة، محاط بجدران من الطين بارتفاع 10سم، تتوسطه حفرة صغيرة يوضع الجمر بها، "المدفن" حفرة في جوف الأرض غالبا ما تكون كروية الشكل، وهي ليست صخرية ولا طينية تستعمل كمستودع لخزن الحبوب. "الجرين" أرض منبسطة ترصف بالحجر المستوي أو تليس لتكون مستوية، توضع فيه غلة الحبوب ليتم بعدها فصل الحبوب عن قشورها وسنابلها بواسطة المدوسة، "الصهار" دهن جدران المنازل من الداخل باللون الأبيض، "الخضار" دهن الأرضيات والدرج باللون الأخضر، والصهار والخضار من مكونات البيئة الطبيعية وخامات الأرض. "موجان" سوق خميس مشيط وسمي موجان لكثرة البشر الذين يفدون إليه من كل أنحاء المنطقة، فتراهم يموجون فيه كأمواج البحر الهادر، ليت الآخرين ينقبون ويموجون في دواخلهم ليفعلوا كما فعل "حارس الذكريات" صديقي عبدالرحمن أبوملحة، ويكتبوا هذه المدونات الحياتية قبل أن تتلاشى وتضمحل.