في سلسلة مقالات لي كتبتها في صحيفتنا "الوطن"، تحت عنوان "صراع المحاور في المشرق العربي"؛ ناقشت وحللت تشكل محورين رئيسين في المشرق العربي، وأسباب وكيفية تشكل وتموضع كل منهما من البعدين الجيو-ستراتيجي والجيو-تاريخي؛ وسبب تشكل كل محور منها في المنطقة، وأطلقت على كل محور اسمه التاريخي الذي نشأ وتشكل وتموضع من خلاله، ليسهل رصده ومتابعة زخمه من ناحية الصعود والهبوط أو الركود والاستكانة. وهما: المحور الفارسي والمحور الرومي، اللذان تشكلا قبل نشوء الدولة العربية الفاعلة والمتفاعلة مع محيطها؛ ببعديه الجغرافيين، الشرقي والغربي.

وسبب تشكل المحورين المتنافسين على الهيمنة على المشرق العربي، وأحيانا المتصارعين عليه، وفي أحيان أخرى المتحاربين فيه؛ هو من أجل السيطرة على مفاصل طرق وخطوط التجارة العالمية، من الشرق إلى الغرب، المتمركزة في المشرق العربي والتحكم بها. وسبب كون المشرق العربي، غدا ساحة صراع بين المحورين الفارسي والرومي؛ هو وجود الفراغ الاستراتيجي فيه. والفراغ الاستراتيجي يعني عدم وجود دولة أو حتى قوى شرق عربية؛ تملأ هذا الفراغ وتتحكم فيه. ووجود قوة أو قوى شرق عربية تعبئ الفراغ الاستراتيجي في المشرق العربي، وتكون محايدة بين المحورين؛ يرضي كل محور منهما بها، ويخمد صراعهما في المنطقة وعليها. وعندما تضعف الدولة العربية، أو تتفكك القوى العربية في المنطقة، ويظهر الفراغ الاستراتيجي جليا في المنطقة ثانية؛ يشتعل الصراع بين المحورين الفارسي والرومي، لملء هذا الفراغ بأي شكل من الأشكال.

فعند قيام الدولة العربية الإسلامية الأولى، والتي حملت مشروعها السياسي والثقافي وفي المحصلة الحضاري؛ وملأت الفراغ الاستراتيجي في المشرق العربي، عم السلام والاستقرار المنطقة. وهنا خمد الصراع الفارسي الرومي على المنطقة، لأن كل منهما مطمئن بعدم سيطرة الآخر عليه، وأن مصالح كل منهما مؤمنة، من قبل القوة أو القوى المحلية.

وقد أوضحت، في مقالاتي السابقة، أنني عندما أذكر المحور الفارسي؛ فأنا أسميه باسمه التاريخي، وكذلك الرومي. ولا يعني ذلك أن إيران أو تركيا دوما تمثلان بالضرورة هذا المحور أو ذاك، ولكن كل قوة أو قوى لها اعتبارها وعليه لها مصالحها في المشرق العربي وتقع شرق إيران، مثل روسيا أو الصين أو حتى الهند؛ فهي بالنسبة لتحليلي تندرج تحت مسمى المحور الفارسي، حتى ولو لم تكن إيران جزءا من هذا المحور. وكذلك كل قوة أو قوى لها اعتبارها وعليه مصالحها في المنطقة، وتقع غرب تركيا، مثل دول أوربا والولايات المتحدة، فهي تندرج تحت مسمى المحور الرومي، ولو لم تكن تركيا جزءا من المحور. وهذا بحسب ما أسميته بالبعد الجيو-تاريخي، وأعتقد بأنني أول من أطلق هذا المصطلح؛ وأهمية هذا البعد بالنسبة لي، أنه يوضح جليا الصراع الجيو-ستراتيجي، ويثبت بأنه المتحكم الرئيس في حركة الصراع بين الأمم والدول.

وفي معنى آخر؛ هذا يثبت لي بأن الجغرافيا، بثباتها، هي من تعيد نفسها، وليس التاريخ بحركته. أما ما نعرفه عن إعادة التاريخ نفسه فلا يعدو أنه يعكس ثبات الجغرافيا التي بدورها تحدد ثبات مصالح من يعيش عليها، وعليه تشكل تموضعاته وتترساته الإقليمية والدولية، حاضرا وقديما.

كان المحوران الفارسي والرومي، قبل قيام الدولة العربية الإسلامية، قد اتفقا على أن تكون مملكة المناذرة في العراق تقع تحت النفوذ الفارسي؛ ومملكة الغساسنة في الشام تقع تحت النفوذ الرومي، وهكذا خلق المحوران طريقة لحفظ مصالح كل منها ورعايتها في المنطقة، بدل الصراع عليها. هذا من ناحية العراق والشام؛ أما من ناحية اليمن، فقد بقيت مفتوحة على الصراع بين المحورين، مرة يسيطر عليها هذا المحور ومرة أخرى يسيطر عليها المحور الآخر. حتى ظهرت الدولة العربية الإسلامية، وملأت الفراغ الاستراتيجي الذي كان سبب صراع المحورين الفارسي والرومي، كل يريد ملأه قبل الآخر.

كانت مصالح العرب، خاصة في الخط الممتد من حدود الروم "تركيا"، حتى سواحل بحر العرب، جنوب غرب الجزيرة العربية، مرتبطة دوما مع مصالح المحور الرومي. حيث العرب في هذه البقعة الجغرافية، يعيشون على خط التجارة بين الشرق والغرب، والذي يأتي من الشرق عبر اليمن صعودا للحجاز مرورا بفلسطين والشام، وصولا لدولة الروم، والتي من هناك يتم توزيعها على باقي دول أوروبا ومناطقها؛ والعكس صحيح، أي نقل التجارة من الغرب إلى الشرق عبر هذا الخط. وهذا ما أسماه العرب، برحلتي الشتاء والصيف.

أما مصالح العرب من خط حدود فارس شرق العراق؛ مرورا بسواحل الخليج العربي، حتى بحر عمان جنوبا، فكانت مرتبطة مع مصالح المحور الفارسي، كون تجارتها مع الشرق، فارس والهند. ففي حال تدهورت أحوال الدولة الرومية، يؤثر ذلك سلبا على تجارة ومصالح غرب منطقة المشرق العربي، وكذلك عندما تتدهور أحوال الدولة الفارسية؛ تتأثر بذلك تجارة ومصالح خط منطقة شرق المشرق العربي. فعندما انتصر الفرس على الروم قبيل نشوء الدولة العربية الإسلامية؛ حزن العرب، سواء عرب مكة "المشركون"، أو عرب المدينة "المسلمون". وعليه نزلت الآية الكريمة: "غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون". وهذا تطمين للعرب الذين حزنوا بسبب هزيمة الفرس للروم، على عدم تأثر مصالحهم لفترة طويلة.

في العصر الحديث؛ كذلك ظلت تجارة ومصالح منطقة غرب المشرق العربي، مرتبطة مع مصالح المحور الرومي "الغرب"؛ فبدل أن كانت التجارة بينهما تجارة فصلين: الشتاء والصيف؛ أصبحت بعد ظهور النفط والغاز، تجارة أربع فصول في السنة، ولذلك تعمقت المصالح الاستراتيجية بينهما أكثر من ذي قبل.

أما المحور الفارسي ففقد نفوذه على منطقة شرق المشرق العربي، الخليج العربي والعراق؛ وأصبح من قبل المحور الرومي، والمشرق العربي كافة، يشكل خطرا يهدد مصالحها، خوفا من أن يسترجع نفوذه ثانية على منطقة المشرق العربي. خاصة بعد الثورة الإيرانية 1979، والتقارب الحاصل بين إيران وروسيا والصين، والآن الهند؛ ودخولهم في شبه محور دولي وإقليمي.

بعد الأحداث في العراق، استعاد المحور الفارسي نفوذه فيه، وقبل ذلك كان قد تمدد للشام. وهذا ما اعتبره المحور المضاد خطورة غير مسبوقة، كون فارس قد مد نفوذه على مملكة المناذرة والغساسنة كذلك. هذا ما استفز الروم في تركيا وغربها. وأخذ يهدد النفوذ الفارسي، للامتداد إلى لبنان؛ وهذا ما استفز المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي. وعندما اضطربت الأحداث في اليمن؛ شعر قادة منطقة شرق المشرق العربي بالتهديد المباشر لهم، حيث تمت محاصرتهم من أعلى، العراق وسورية وربما لبنان؛ ومن الجنوب اليمن. ولذلك تم تكوين التحالف العربي لصد تمدد المحور الفارسي، ومد نفوذه على منطقة شرق المشرق العربي.

وعلى هذا الأساس، اشتعلت نيران الجبهات في العراق وسورية واليمن ومن الممكن لبنان، وحمي وطيسها، حيث هي تشكل أجزاءا من جبهة واحدة وليست جبهات منفصلة عن بعض، تستعر في ظل الاختلاف سويا، وتخمد في ظل التفاهم سويا.