الكتابة حالة خاصة جدا. هي بالنسبة للكاتب أشبه بقران مقدس لا حياد عنه. لكنها تخون أحيانا، لا بل تُخان ربما، حين يصبح العقل غير قادر عن التعبير عما يجول فيه بشكل سلس يرضي كبرياء الحروف والكلمات.
ويتعرّض الكاتب أحيانا لحالة من الانغلاق الذهني تمنعه من التعبير السلس عن أفكاره كتابيا وكأنه يتعرض إلى "قفل الكاتب" لا تفسير لها سوى أنها حالة عناد، وهذا ما يحدث للعديد من الكتّاب ومنهم كاتب هذه السطور، وسط توارد العديد من الأفكار التي يصعب القبض عليها، فالأفكار موجودة، ولكن التعبير عنها يكون صعبا، وفي هذه الحالة تكون الكتابة بالضبط مثل "جودو" الذي لا يجيء، في المسرحية العبثية الشهيرة التي كتبها الأيرلندي "صموئيل بيكيت" حول رجلين ينتظران شخصا اسمه "جودو"، لكن المسرحية تنتهي ولا يأتي أبدا.
صحيح أن الأفكار في الكتابة الفكرية والإبداعية تحديدا هي عبارة "ومضة" إن لم يقتنصها الكاتب تتلاشى وتذهب بعيدا، غير أن حالة "قفل الكاتب" تختلف، فهي تعيق التعبير عن الفكرة الواضحة والمختمرة في الذهن، لسبب لا يعرفه الكاتب سوى أنه ربما يمرّ في حالة مزاجية سيئة، لا سيما أن الكتابة أشبه بعملية حفر في الذاكرة، وعلى الرغم من المتعة فيها إلا أنها ترتبط أحيانا بألم ما، يشبه آلام الأمهات في حالات الولادة حين تكتمل بدايات الوجود الإنساني في هذا العالم.
مجرد التفكير بحالة الانغلاق المشار إليها آنفا، تعطي إحساسا بأن الكاتب أمام سياج منيع، ولتجازوها يجب عليه أن يكتب ثم يكتب ثم يكتب، وهذا ما أفعله الآن، إذ تسيّرني الكتابة التي اخترتُ السير في طريقها بما يشبه الركض في سباقات "الماراثون" منذ عشر سنين، وغالبا ما تكون البدايات صعبة لكنها جميلة وباقية في الذاكرة، باعتبار الكتابة حالة من أرقى الحالات "الوجودية"، يمكن من خلالها أن يعبّر الكاتب عن ذاته وعن أفكاره وعن العالم من حوله، دون أن يتحدث كثيرا، ودون أن يجف الحلق وينتهي الكلام! غير أن الأخطار الأخرى المتعلقة بحرية التعبير تتهدد الكاتب لا بتكميم فمه فحسب، بل ربما تصل إلى كسر قلمه!
ولكي تكون الكتابة مختلفة؛ علينا أن نفكر بها في طريقة مختلفة، بغض النظر عن الموضوع الذي يراد الكتابة فيه، إذ إن ثمة نَفَسا خاصا في الكتابة يظهر على الحبر والورق والقلم، وحتى "الكيبورد" ربما، حين يقرر الكاتب أنه سيخوض تجربة الكتابة، ولكي تكون الكتابة لحظة حياة جديدة يعشها لأول مرة عليه أن يستلهم الفكرة بأنها المرة الأولى، كي تستمر حالة التعطش للكتابة وإلا لن يستمر العطاء.
إن الكتابة قيد؛ لكنها قد تكون القيد الوحيد في هذا العالم الذي تحفّه حالة ارتباط مقدسة وساحرة جميلة بين الكتاب والكتابة، كيف لا وأجمل القيود هي التي يختارها الإنسان بنفسه؟!
والكتابة ذات الصبغة الإبداعية عموما تحتاج إلى صبر الأنبياء كي تخرج من بوتقة الصراع في الذهن، حيث تكون الأفكار أشبه بعاصفة تنتظر الهدوء، ولن يسلم الكاتب من مطرقة الكتابة التي تدق ذهنه حتى تخرج الأفكار والحروف والكلمات، بل شبهها الكاتب النمساوي المستقيل من الحياة احتجاجا على جرائم الإنسانية "ستيفان تسفايج" بحالة القتل التي يعيشها المجرم دون أن يدركها إلا لاحقا.
ولكن باعتبار الكتابة الكوة الوحيدة التي يتم بها الولوج إلى مسارب النور، من خلال وصف أو الواقع ونقده واستحضار كل الآمال والآلام في هذا العالم المليء بالأشياء التي لا نعرفها، فتقودنا الكتابة نحو ما تريد بلا أدنى مقاومة، فحالات الحب الكبرى لا يمكن مقاومتها، وهذه هي الكتابة/ القيد التي يتعامل معها الكاتب بقلبه وبعقله معا.