تحدثت تقارير صحفية نشرت مؤخرا، عن واقع "الترجمة" في المجتمعات العربية وعن ضعفها وركودها، حيث لوحظ أن "ما يترجم في إسبانيا خلال عام واحد يفوق إجمالي ما ترجم في الدول العربية مجتمعة خلال 45 عاما"، والعالم العربي جميعه يترجم فقط ما يقارب 3 آلاف كتاب في السنة الواحدة.

وذكر مختصون أن من أسباب ضعف الترجمة يعود إلى عدم وجود إرادة سياسية تجعل (الترجمة) من الأولويات في الحركة الأدبية والعلمية، بالإضافة إلى نقص المترجمين بصفة عامة، فغالبيتهم أساتذة جامعيون لهم ارتباطاتهم والترجمة تأخذ وقتا طويلا منهم.

والأسئلة المطروحة هنا: لماذا لا توجد إرادة مجتمعية تهتم بالترجمة في العالم العربي؟، ويا ترى ما هو سبب عدم إقبال المترجمين والمختصين على الترجمة؟ هل هو تكاسل وعدم مبالاة بسبب التخلف العلمي والتقني؟ أم أن هناك رفضا للترجمة عموما من قبل الناس؟

الإجابة عن الأسئلة السابقة نجدها في قول المودودي، فهو يرى أنه بعد الخلفاء الراشدين الأربعة – رضي الله عنهم – "تدفق خليط متكون من الفلسفة والأدب والعلوم من اليونان والهند.. وبذلك بدأ الخلاف النظري بين المسلمين، وبدأت عقائد المعتزلة ونزعات الشك والإلحاد، وبدأ الاتجاه إلى الفرقة والخلاف في مجال العقائد.. ووجدت فنون الرقص والموسيقى والرسم، وهي فنون غير إسلامية تشجيعاً من أولئك الذين كان محرم عليهم أن يقترفوا هذه الفنون القبيحة"!.

وفي وقتنا الحاضر يرى العديد من رجال الدين والدعاة بأن "الترجمة" ما هي إلا أداة ووسيلة من وسائل الغزو الفكري والمخطط التغريبي للمجتمع المسلم، وحجتهم في ذلك أن الترجمة في جانب الكتب العلمية والتقنية قليلة مقارنة بترجمة المئات من القصص والروايات والمسرحيات، والكتب التي تحمل الفكر العلماني الجاحد للدين، فكان الهدف من الترجمة في نظر هؤلاء الدعاة هو تحطيم التقاليد الإسلامية التي تمنع الاختلاط وتنفر من الفاحشة والتحلل الخلقي!.

ومما سبق، قد يتضح للوهلة الأولى أن بعض الدعاة لا يرفضون ترجمة الكتب العلمية والتقنية، ولكن واقع الأمر يقول خلاف ذلك، فعلى سبيل المثال يرى أحد الدعاة أن ترجمة النظرية الداروينية (في علم الأحياء)، الهدف منها ترويج أفكار اليهودية العالمية وتوسيع نطاقها لإنشاء مجتمع بلا دين ولا أخلاق ولا تقاليد!، ونقيس على ذلك أيضا النظريات الفلسفية في علوم الرياضيات والفيزياء والكيمياء.

يقول أحد الدعاة عن (الفلسفة) بأنها "كانت عاملا رئيسا في زعزعة العقيدة، وخلخلة اليقين عند الناس، وتفاقمت الجناية على العقيدة بسبب كثير من مسائلها التي كان عليها مبنيّ علم الكلام، فتحوّل الإيمان إلى مسرح للشبهات، ومرتعٍ للوساوس التي أنتجتها براهين الفلسفة المتكافئة، وأدلتها المتضادة، فعظمت بها المصيبة، وتفاقم بسببها الداء"!.

ومن المفارقات العجيبة أن الدعاة ورجال الدين يتشهدون عند المقارنة مع الحضارة الغربية، بمنجزات علماء المسلمين عبر التاريخ، ومن هؤلاء العلماء ابن سينا، والخوارزمي، والرازي، وابن رشد وغيرهم، وأن الغرب ترجم كتبهم واستفاد كثيرا من علومهم، مع أن هؤلاء العلماء من أشهر الفلاسفة في الإسلام!

فالدعاة يتفاخرون بالحركة العلمية الإسلامية عبر التاريخ، ويعترفون بأن العلماء اتجهوا إلى اللغة الإغريقية واللاتينية بصفتها لغة العلم الغالبة في ذاك الوقت، حتى يستطيعوا نقل العلم إلى اللسان العربي، ومن هذه النقطة بدؤوا حركتهم العلمية فأسسوا المنهج التجريبي في البحث العلمي، علما بأن العلم كان عند الإغريق فلسفيا ومع ذلك يرى الدعاة ورجال الدين بأن هذا العصر من التاريخ انتشرت فيه النظريات الفلسفية وعلم الكلام الهادمة للدين والعقيدة والأخلاق!.

ومن هنا نستطيع أن نتعرّف على أحد الأسباب الرئيسية في عدم اهتمام المجتمعات العربية بالترجمة عموما، فهي مرفوضة دينيا لما تحتويها من مخاطر عقائدية كما يراها بعض الدعاة ورجال الدين.

أما فيما يتعلق بالنقص الموجود في أعداد المترجمين في العالم العربي فهذا مرده في نظري يعود إلى الخوف على الهوية وعلى اللغة العربية من الضياع والانطماس، بالإضافة إلى ما تم استعراضه آنفاً، فلما كانت اللغة مرتبطة بشكل ما بالهوية فإن مسألة مكانة اللغة العربية واللغات الأجنبية في التعليم كثيرا ما تثار بشكل انفعالي، خاصة في الخطاب الديني.

فبعض الدعاة دائما ما يحذرون من تعلم اللغات الأجنبية ويستشهدون على ذلك ما حدث في تركيا على يد مصطفى أتاتورك، حيث تم صرف المسلمين عن تراثهم الإسلامي بتغيير الحروف العربية وكتابة اللغة التركية بالأحرف اللاتينية وتصفيتها من معظم الكلمات العربية لتنشأ أجيال تعجز عجزا كاملا عن الاتصال بدينها وبتراثها، فالمطلوب هو صرف الأمة عن اللغة العربية وعلى رأسها القرآن الكريم!.

ولهذا كانت برامج التعليم مقتصرة على تلقين اللغة العربية، واهتمامها ضعيف باللغات الأجنبية التي تتناول في الغالب مواضيع هزيلة وبأسلوب بدائي، وإن كان هناك اهتمام فيكون بدعوى اعتبار اللغة الأجنبية وسيلة لتعليم العلوم وليس لتعليم الثقافات الأجنبية، وبالتالي ليس هناك إقبال على تعلم اللغات الأخرى في المعاهد والجامعات كتخصص مما ترتب على ذلك النقص في أعداد المترجمين عموما.

كان هذا تحليلا ملخصا ومبسطا لأسباب ركود وجمود حركة الترجمة في المجتمعات العربية، وذلك باختيار أحد العوامل وليس جميعها لأسباب مقاومة الترجمة وبالتالي ضعفها وعدم الاهتمام بها.

عندما يتحدث الدعاة عن الماضي والتاريخ والعصر العلمي الذهبي، فقد كان عصر حركات الترجمة من علماء الإغريق والهند وفلاسفتهما، وعصر المناقشات والسجالات بين المعتزلة والأشاعرة، إنه عصر الحيوية الفكرية والعقلية التي تؤمن بالتعددية والاختلاف.

عندما يؤمن الدعاة بأهمية ترجمة الكتب الإسلامية إلى اللغات الأخرى حتى يتم التواصل مع المجتمعات الأخرى، وبالتالي فهم الإسلام بصورته الصحيحة، فإنه المهم أيضا ترجمة الكتب الأجنبية حتى نفهم الآخر بشكل صحيح.