توقفت المقالة الماضية عند فقرة مقتبسة من كلام للرافعي حول كون المرأة -عند الشعراء- السر الذي يفسر كل حسن وجمال وسمو، وعلى النقيض من ذلك ينظر آخرون إلى وجودها في الحياة العامة، بوصفه جالب الشر، فيحولون هذه المسألة إلى قضيتهم التي ينافحون عنها بما استطاعوا، والعجيب أن تتبعهم نساءٌ لا ينظرن إلى الرجل إلا بوصفه ذكرا شهوانيا، ويتوهمن أن كل من يدافع عن إنسانية المرأة، يريدها لهدف جسدي خالص؛ ذلك لأن الخطاب المحيط قد زرع ذلك في أذهانهن، فأصبحن سجينات يدافعن عن السجان، ويشتمن كل من يشير إلى حقهن في الحياة!

 وبالعودة إلى الحضور الرمزي للمرأة في الشعر كما رآه الرافعي، نجده يكون حين لا يصبح حضورها مقصودا بذاته، وإنما يكون من أجل التعبير عن شيء آخر، بحيث يستطيع القارئ أن يرى الفكرة من وراء حجاب هو المرأة، وهو ما يعرف في النقد الحديث بالرمز، حتى باتت المرأة/ الرمز تقنيةً شعرية، تتكئ على المرأة، وتجعل منها محورا في الظاهر، لكنها ليست كذلك في الباطن، وهي في كل الحالات رمز لمعنى يراه الشاعر جميلا، أو عميقا، أو غامضا، أو ساميا.

الشاعر علي آل عمر عسيري -رحمه الله- أراد أن يخاطب أمسية شعرية، فجعل منها، ومن المدينة التي أقيمت فيها، سيدة ذات صفات خارقة، وربما كان ذلك نوعا من التواري؛ لأن الأمسية المقصودة كانت لمجموعة من شعراء القصيدة الحديثة الذين لم يكن المجتمع يتقبل أشعارهم، ودليل ذلك أن تاريخ نظم القصيدة كان سنة 1404هـ، وهي في عقد احتدم فيه الصراع بين: المحافظين، والمجددين، حول ما يمكن أن يؤدي إليه الشكل الشعري الجديد من انحرافات فكرية، كما يرى المحافظون؛ ولذا كانت بعض معاني تلك القصيدة موحية بالإصرار على التجديد، لكن من خلال هذه السيدة الساحرة، التي تخلق الجمال، ويألفها التغريب والحضارة، وقد صدّر قصيدته، بقوله: "إلى أمسية صيفية في نادي أبها الأدبي"، فجعَل رمز المرأة – هنا – يحتمل الأمسية والمدينة في الوقت نفسه. يقول:

سيدتي ساحرة

وديعة

جباره

يألفها التغريب والحضاره

تخلّق الجمال

في مقاطع الخضاب

في استدارة العصابه

ثم يتجه بالرمز – في المقطع الثاني من القصيدة - إلى المدينة الأنثى، وهو استخدام منتشر عند الشعراء، إذ يتم إسقاط الصفات الأنثوية على المكان، للهروب من المعنى المباشر، وكأن الشاعر لم يرد أن يعبر عن سعادته بحضور القصيدة الجديدة، فجعل السعادة حال المدينة التي تعلّم العشق والغزل، غير أن الرمز – هنا – أكثر وضوحا منه في المقطع السابق، إذ يخاطبها بـ"أميرة الجبل"، قائلا:

كم تحضنين الشوق يا أميرة الجبل

وتسرفين في الأمل

تعلّمين..

من لا تعرفين

العشق والغزل

وربما تكون نفسه أمّاره

وليس لي إلا أن ختم بما ختم به أبو عبدالرحمن: "وربما تكون نفسه أمّاره"، فمن كانت نفسه كذلك، فلا ينظرْ إلى العالم بعين نزواته.