قرأت يوما عن أنواع القلم، الصادق والكاذب، الحر والمأجور، الساخر والجدّي، الرقيق والساحق.. إلخ، فالأقلام كما نعلم تعكس شخصيات ونفسيات أصحابها، أما عن الساحات التي تجري فيها وتأخذ مداها، لم تعد كما كانت، ففي السابق كان هنالك أوراق بيضاء أو ملونة يُسطّر عليها الكلم، قد تحفظ أو قد تُمزق وترمى، أما اليوم فنجد أن هذه الأقلام تطل علينا بكل شكل ولون ومن خلال كل وسيلة نشر أو تواصل ممكنة، الشيء الجديد الذي ولد مع هذه الحقبة الحديثة والمتطورة تقنيا، هو أقلام دخلت عالم التواصل والكتابة وكأن في يدها شهادة أو رخصة للأذى!

لن أتحدث عن المجاميع التي أغرقتنا تحليلا ونقدا، تلك التي اقتحمت عالم الأدب والثقافة والسياسة والدين والاقتصاد وكل مجال يمكن أن يخطر على البال، لأنه فجأة أصبح لدينا مختصون في كل شيء، لا يعرضون فكرا بل يفرضون رأيا، لا يتقبلون أي اعتراض أو يقدمون أي توثيق أو شرح، وإن وقفت لتسأل وتحاور تعتبر متعديا، فكيف تجرؤ على مراجعة جهابذة العلم والمعرفة؟ إلى هنا المسألة بسيطة ويمكن أن نتحملها، فأولا وأخيرا لنا عقل يفكر ولنا إرادة مستقلة تتقبل أو ترفض، لكن مجال مقالتي اليوم هو عن أولئك الذين لا يمتلكون أدنى أساسيات الحوار الراقي، أولئك الذين فجأة وجدوا أن لهم صوتا، فبدل من أن يفكروا بماهية الرسالة التي يجب أن يحملها هذا الصوت، خُدروا بالقوة الجديدة التي شعروا بها من انطلاق ذاك الصوت! استعيض عن المفردات الراقية بالبذيئة، ونصبت المحاكم وأصدرت الأحكام بلا قضاة ولا إعطاء أي فرصة للآخر لأن يدافع عن نفسه! المشكلة قد نتعداها إن كان خلفها جاهلا، ولكن أن تجد جلهم من المفترض أنهم ينتمون إلى الشريحة المتعلمة أو المثقفة، هنا تكمن المأساة!

حين تحدثهم عن الموضوعية وعن حق كل شخص في الدفاع عن نفسه، يؤيدونك، بل إنهم يرددون مقتطفات من أقوال مأثورة تتحدث عن الموضوع، ولكن عند أول احتكاك يخرج الصدأ ويبدأ الهجوم وليته هجوم مبني على حجج وأدلة ومعلومات موثقة، بل إنه هجوم مبني على قيل عن قال! وليت الأمر يبقى كذلك بل تجد أن كل الأسلحة جردت وبدأت ملحمة المذابح تتكشف أمامنا، كلمات كالرصاص تقتل، كالسكاكين تُشّرح، كالسم تسري في حياة الضحية فتشوه سمعته والمحظوظ من يستطيع أن يقف أمام هذا التسونامي الكاسح!

من أعطاهم الحق، ومن أين أتتهم كل هذه الجرأة؟! كل شيء أمامهم مباح طالما، حسب مفهومهم، أنهم يدافعون عن حق! لسان حالهم يقول: "لي الحق في أن أشتمك من خلال أحط المفردات والصور والإشارات، إن لم يعجبني رأيك، مسارك، مذهبك، مرجعيتك، مدرستك الفكرية، أو حتى إن صوّب نحوك أحدهم وقال: عدو، فاسد"!

لقد أصبح الأمر إدمانا، فإن مرت فترة ولم تظهر لهم ضحية يصابون بالضجر والملل، وإن لم يجدوا يبدؤون بالبحث في الأوراق القديمة لعل وعسى يتعثرون بكلمة هنا أو رأي هناك لكبش يقدم لساديتهم قربانا وضحية! وصدقوني إن قضوا على الغالبية فسوف يستديرون ويهاجم بعضهم البعض!

الذي أعرفه أن الحق الذي تحصل عليه هو الذي تصر في طلبه، والحقيقة هي التي تبحث عنها بنفسك وليست لأنها تُردد من قبل الأغلبية، والمذنب هو الذي تظهر ضده الأدلة التي تعتمد على وقائع موثقة وليس على رؤى وفرضيات هذا وذاك! قلت الذي أعرفه ويعرفه بالطبع الكثير غيري، ولكن الذي يجري أن كل ذلك يرفع فوق الأرفف، ليُفسح المجال أمام إباحة كل ما هو غير مباح، قد يستطيع أحد الضحايا أو إحدى الضحايا أن يرفع قضية، عشرة هنا وعشرون هناك، ولكن ماذا عن الألوف المؤلفة؟! كنا نتحدث عن تلوث المياه والهواء والبيئة، والآن يحاصرنا تلوث الأقلام!

قد نفكر أن الأمر له علاقة بالوازع الديني، بالأخلاق، أو ربما بالضمير، أو حتى بالتربية، ولكن هل نستطيع إعادة تربية هذه النوعية عن بعد، هل نستطيع إحياء الضمير؟! من أين نبدأ، من المؤسسات التربوية والتعليمية، من المنزل، أم من على منابر الإعلام؟ كل شيء جُرّب، لكن أين الخلل؟! لأن الكثير من بين من وكلت لهم هذه المهمة الحيوية، ممن يحمل شعلة الإصلاح والتدريب والتنمية البشرية، أي من كنا نعتبرهم القدوة الحسنة وحملناهم المسؤولية؛ من بينهم من تعتبر نفسها أو يعتبر نفسه مُرخّصا للأذى ومرفوعا عنه القلم، وهم بالطبع منتشرون في جميع المجالات وجميع شرائح المجتمع!

ربما خسرنا الذي مضى، ولكن الآتي ما زال بيدنا ونستطيع أن نضع المعايير ونطبقها بكل حرفية في اختيار من سيسهم في بناء الأجيال القادمة وعلى جميع الأصعدة، ونتابع ونصر على ذلك، ما أقصد هو أن نبدأ ببناء جسور كي نصل إلى الدفة الأخرى بسلام قبل أن يمزق بعضنا البعض، أنا لا أطالب بأن نقف في وجه العواصف أو نحارب الطوفان، التجاهل وعدم التشجيع والمشاركة هو سلاح الآن، أما غدنا فهو يومٌ آخر، نستطيع أن نجعله لنا أو نتركه لهم!