يقول الكاتب المصري علاء الأسواني متحدثا عن المجتمع المصري خاصة والمجتمع العربي عامة، إنه يوجد الكثير ممن يعتبرون أنفسهم متدينين: "يمارسون انحرافات من غير أن يؤلمهم ضميرهم الديني"، ويتساءل عن تواجد "الشبان الذين يتحرشون بالسيدات في الشوارع صباح يوم العيد، والأطباء والممرضات الذين يسيئون معاملة المرضى الفقراء في المستشفيات العامة، والطلبة الذين يمارسون الغش الجماعي (أليس) معظم هؤلاء متدينين وحريصين على أداء الفرائض"؟! ويقول الكاتب الفلسطيني راسم عبيدات: "قد تستغرب أو لا تجد تفسيراً مقنعاً لكون الكثيرين ممن يقومون بهذه الأفعال أو الأعمال، يؤدون الشعائر والفروض الدينية من صوم وصلاة وغيرها، ولكن لا تجد لذلك انعكاساً في سلوكهم، مما يؤكد أن الفروض هي إجرائية وليس لها علاقة بالسلوك"، وأظن أنني لن أجد من وضع يده على الجرح مثل الكاتب فهمي هويدي حيث قال: "نعاني مشكلة فصل الدين عن الأخلاق والمعاملات... (مما أدى إلى) تحول التدين إلى مجموعة من الطقوس والمظاهر..."، بمعنى أن الدين أصبح يقدم على أنه مرادف للأخلاق ويُختصر في مجموعة من السلوكيات إذا ما أتمها الإنسان ظهر متدينا، أو اعتبر نفسه، أو يفترض أن يعتبره الآخرون متدينا!
أنا هنا لا أتعدى على المتدينين من الذين نجد أن سلوكياتهم وعباداتهم ليستا سوى وجهين لعملة واحدة تشكل الشخصية الصادقة الصالحة الأمينة والفاعلة، ليس فقط على المستوى المحلي بل إن منهم من تعدى إلى المستوى الإقليمي والعالمي أيضا، ولكن ما أريد أن أوضحه هنا أننا نتهم أصحاب الديانات والمعتقدات الأخرى بانعدام الأخلاق بينما يوميا نرى أن مجتمعاتهم تتطور وتنمو على أساس الأخلاقيات! أين المشكلة؟ قد يتساءل البعض قائلا: لقد تحدث الكثير عن هذه النقطة، وقلنا إنه "ضعف الوازع الديني"! هنا اسمحوا لي أن أعترض، لأن أصـل الفطـرة التي فطر الله ـ سبحانه وتعالى ـ عليهــا البشــر هو "الخُلـق الحسن"، أي قبل المعرفة التي يعتمد عليها الوازع الديني، والذي قد لا يتقيد به الإنسان، لنجرب اختبار الأخلاق التالي الذي قامت به جامعة هارفارد على عينة من ألف وخمسمئة شخص من حول العالم، بمعنى من خلفيات دينية وعقائدية متعددة:
اقرأ السيناريوهات الثلاثة التالية، ثم في الفراغ الذي يتبع كلا منها ضع “واجب"، "يجوز"، أو "محرم".
- عربة نقل على وشك دهس أكثر من خمسة أشخاص يسيرون على القضبان، ويستطيع عامل السكة الحديد أن يغير مسار العربة إلى الجانب الآخر حيث يقف شخص واحد فقط. تحويل المسار هو ..........
- مررت بطفلة صغيرة تغرق في بركة ضحلة، وأنت الشخص الوحيد في الجوار، إذا التقطت الطفلة فسوف تنقذها، ولكن سوف تتلف ملابسك. التقاط الطفلة هنا هو..........
- أُدخل خمسة أشخاص إلى المستشفى في حالة حرجة، ووجد أن كلا منهم يحتاج إلى عضو حيوي من أجل البقاء على قيد الحياة، ولم يكن هناك وقت كاف لطلب الأعضاء من خارج المستشفى، ولكن هنالك شخص سليم في غرفة الانتظار بالمستشفى، إذا ما أخذ الجرّاح أعضاء هذا الشخص فسوف يموت، ولكنه سوف ينقذ الخمسة الذين يصارعون للبقاء على قيد الحياة. أخذ الأعضاء من الشخص السليم هو..........
لو كان حكمك في الحالة الأولى "يجوز" والثانية "واجب" والثالثة "محرم" تكون إجاباتك قد طابقت إجابات الألف والخمسمئة ممن أخذوا الاختبار، حيث وضع 90% "يجوز" للحالة الأولى، و97% وضع "واجب" للحالة الثانية، و97% وضع "محرم" للحالة الثالثة، ولنتذكر أنهم من ديانات وعقائد مختلفة، إذن لم يحرك كل هؤلاء سوى بوصلة داخلية وضعت في داخل الإنسان من قبل رب العالمين منذ خلقه، بوصلة يتم التواصل معها بقوة أو بضعف، أي قدرة تنمّى داخل هذا الإنسان عن طريق أسلوب معيشي ما، ومن الواضح أن مجتمعاتنا العربية تفتقر إليه، إنه برأيي ـ وقد يختلف معي الكثير ـ التربية من خلال القدوة، التربية من خلال المعايشة والخبرة الشخصية، والنظام الصارم الذي يطبق على الجميع دون تفرقة أو محاباة وبكل شفافية، هنا فقط قد نبدأ بتلمس التغير في الأجيال القادمة وهو ما فشلنا في زرعه فيمن قبلهم، وهنا لا أعني فقط الأسرة، بل جميع المؤسسات الاجتماعية وعلى رأسها المؤسسات التعليمية، لأن التعليم ليس فقط اكتساب المعرفة حتى ولو كانت تربية دينية، بـل يجـب أن يؤكد أيضا على تنمية الأخلاق، وإن استمر الجهاز التعليمي عندنا في تقديم مواد التربية الدينية بوصفها مواد تعتمد على الحفظ والتلقين ودرجات سقوط ونجاح، فسوف نخلق حاجزا بين الطالب والبوصلة في داخله، هذا إن لم يؤد إلى تشويش يسير بصاحبه في كل الطرقات إلاّ الطريق الصحيح، وتكاثر أصحاب التدين المنفصل عن الأخلاق، ونحن نعرف ما ينتج عن ذلك من خطورة على المجتمع المحلي والعربي والإسلامي.