ربما نتفهم دوافع الفُرس بترسيخ "المظلومية" بالعراق الذي كان يشهد زيجات متبادلة، ولكن بعد احتلاله وجدت "ماكينة الطائفية" التي يديرها الملالي والحرس الثوري، حيال مُعضلة انتهاء الدافع المحرك للجماهير، ولذلك سعت طهران لاستمرار "مبررات الطائفية" فاستثمرت واقعة "المقابر الجماعية" التي جرت بعهد صدّام حسين، الذي لم يكن معنيا بأية مذاهب، فقتل رجال القبائل السُنية، وضرب الأكراد بالغازات المُحرمة دوليا، في إحدى أبشع الجرائم ضد الإنسانية.
وهذا حسن نصرالله قائد ميليشيا "حزب الله" يستغيث بالتاريخ لإسقاطه على الواقع فيعتبر الذين قُتلوا برصاص السفارة الإيرانية ببيروت خلال الاحتجاجات على تَدخُّل "حزب الله" بسورية "شهداء" وتتجلى مهارته بدغدغة مشاعر العوام، وخلط الأوراق بتحميل الحاضر والمستقبل مآسي التاريخ، ويواصل منح "صكوك الشهادة" فيزعم أن قتلى "شيعة الحزب" خلال حربهم بسورية شهداء، والذين ماتوا من الشيعة "غير الحزبيين" برصاص جنود بشار فإنهم أيضاً شهداء، فأي عبثية وتناقض بهذا الخطاب؟
يُكرس صُنّاع الطائفية" مفهوما مفاده: "أن المؤمن مُبتلى، والجنة على قدر المشقة"، ويزعم أن الوقت حان للثورة ثأرا لزمن الظلم، وسعيا لترسيخ واقع جديد يجمع "المظلومين" على أهداف واحدة تستدعي التاريخ مظهرا، لكن الجوهر السياسي هو "المشروع القومي الفارسي" الذي يعتمر العمامة، لا يرون بأسا بتقديم خبراتهم لجماعة الإخوان، لاختلاق "مظلومية" يسوقونها للعالم بعدما استخدموها بمصر عقودا، حتى لفظهم الشعب بعد عام وحيد من حكمهم، وصارت مظلوميتهم مادة للسخرية والنكات.
العمل السري للإخوان والحفاظ على الشكل المؤسسي تاريخيا عبّر عنه المرشد الحالي بقوله قبيل عزل مرسي: "إن منصبه أرفع كثيرا من رئيس الجمهورية"، وهو بالفعل وضع يشبه صلاحيات المرشد الأعلى بالواقع الإيراني، وأضفى العمل السري الطويل غموضا يبدأ بمنظومة العلاقات بالجماعة، كما يحدث بمنظمات المافيا، واستلهاما لحركة "الحشاشين الإسماعيلية" وصولا لطقوس مُعقدة كالبيعة بالسمع والطاعة العمياء، وتضفي أجواء الغموض والقداسة مناخا جعلها لغزا، وحولت شبابها لجيل مأزوم.
ولعل جذور "المظلوميات" ترتبط بمعضلة الهوية، وثنائيات يصعب التوفيق بينها، حتى أن قضايا كنا نحسبها حُسمت منذ مطلع القرن العشرين مع جيل "آباء التنوير" كالطهطاوي والإمام محمد عبده وسلامة موسى ولطفي السيد وطه حسين وغيرهم، لكن ما حدث هو العكس تماما، فقد أُعيد طرح هذه التساؤلات، بل ووضعت على محك التحول من مجرد مطارحات فكرية لمشروع إخواني فشل سياسيا، فاجتمعت كل القوى من شتى المشارب على رفض مرسي وعزله عن الحكم.
واجتماعيا عمقت سياسات الإخوان الاستقطاب بمجتمع سماته التنوع والتناغم، حتى صار الأشقاء يعتدون على بعضهم بسبب حكم مرسي وعزله فأي كارثة كانت ستحدث لو استمر هؤلاء بالسلطة؟
الآن بعدما انحصر تأثير "مظلومية الإخوان" بعناصر الجماعة، أرى المستقبل القريب سينسف فكرة المظلومية ذاتها بدءا باليهود، مرورا بمشروع إيران "التشيع السياسي" وصولا لـ"لإخوان" الذين يصفون الوطنية بالوثنية، ويورثون "عقدة المظلومية" لأطفالهم، فيرضعونهم مشاعر العداوة لمصر وشعبها، وستظل هذه الروح المُشبعة بالكراهية أزمة تحول دون اندماجهم بمجتمعهم ووطنهم.
يصف عالم الجغرافيا السياسية جمال حمدان مصر بأنها "فلتة جغرافية"، وسرّها يكمن بحُسن الإدارة والتوحد، فالأولى هي التي ضبطت النهر، والثانية جعلت المصريين أمة تزرع وتبني وتُبدع حضارات متعاقبة، لهذا تتدهور مصر حين تسوء إدارتها أو يتمزق شمل أهلها ويفتقد الحاكم الحكمة، ويستخف بشعبه مستأسدا عليه بعشيرته، وبعد عزلهم للترويج لمظلومية وهمية.
قدّم الإخوان سيد قطب عرّاب "الحاكمية والجاهلية" بينما أنجبت واحتفت مصر بقامات كالشافعي، وذو النون والعزّ بن عبدالسلام والليث بن سعد الذي عُرض عليه حكم مصر وولاية قضائها، فرفض بإباء العلماء الربانيين، ورغم تنوع المعتقدات لكن الحضارة المصرية ظلت ممتدة بلا انقطاع، متصالحة بلا خصومة.
وبعيدا عن مشروع "مظلومية الإخوان الزائفة" فقد كانت أزمتهم الحقيقية جهلهم بروح مصر الحضارية، وكم أطاحت الغُزاة والطُغاة، وظلت باقية راسخة رسوخ الأهرامات، سلاحها الأول عُمق إيمانها بعدالة السماء، فهي أول من أدرك أن هذا الكون الهائل ليس عبثًا، لكن هناك "خالق عظيم" بغض النظر عن تتابع المعتقدات، لكن يظل الجوهر واحدا، إله واحد لا شريك له، وحساب وثواب وعقاب.
وأخيرا فربما تصنع القوة دولة، لكن العدل والحكمة والمعرفة والتراحم والتلاحم أسس صناعة الحضارة، وليست كل دولة متحضرة بالضرورة، لكن كل حضارة تنحت دولة، وتضبط أركانها بالقانون، وتزين ملامحها بالآداب والفنون، وتحتضن الغرباء بصدر رحب حنون.