جلست أستمع لحديثه مستمتعا.. شاب يافع شارك في بطولة دولية للسباحة في منطقتنا العربية، حياة في كلماته، حماس في سكناته، كأني كنت معهم وهو يحكي عن مشاركته، ومنافسته في السباحة، قال: كان الزمن الذي قطعته في 50 مترا سباحة حرة هو 31 ثانية، قلت له: أولم تفز؟ علته ابتسامة من يقول لا تستخف بي! وذكر أن الأول في هذا السباق قطع المسافة في 23 ثانية، سألت صادقا باستغراب: إذاً لم تفصلك عن الأول غير 8 ثوان فقط؟ قال وهو ممتعض: نعم، قلت: طيب هذا رائع، هذا ممتاز!! لم ترق له إجابتي على الإطلاق! أراد أن يوصل لي معنى أو قل أن يعطيني درساً لعله يفيدني رغم معرفته بأني أفتخر بانتمائي لكلية طب جامعة أم القرى (منجم الذهب- كما سمونا)، ورغم أن الشيب قد اعتلى رأسي كالليالي تزينها الأقمار-ولكنها أقمار كثيرة! إلا أنه أصر على إعطائي درسا، فلم يعلق على تشجيعي، بل ذكر لي قصة أخرى لعلي أتفهم قصده والمعنى الذي يريدني أن أرتقي إليه، قال: كان أحد المتسابقين يطمح إلى الترقي إلى الأولمبياد القادم وأن أحداً لا يمكنه أن يبلغ هذا المستوى العالي إلا إذا حقق زمنا -كحد أدنى- دقيقتان و16 ثانية في سباق 200 متر صدر.. وأثناء السباق.. ظهر تميز هذا الشاب وظهرت سرعته فما لبث أن تعاطف معه -كما يذكر لي الشاب اليافع- كل من كان موجودا في ساحة المسبح الأولمبي سواء كان من أعضاء فريقه أو من الفرق الأخرى أو من الجماهير التي حضرت، تشجيع وتصفيق وزعيق.. حماس لا يوصف.. لكن للأسف لم يتأهل هذا الشاب المتسابق المجتهد وخاب أمله وأمل مدربه وأمل فريقه، لقد كان الزمن الذي تحصل عليه هو دقيقتان و17 ثانية!! الفرق كان ثانية واحدة فقط، ولم يشفع له هذا في التأهل للأولمبياد!!

نظر إلي الشاب اليافع وأنا مشدوه مما سمعت وقد اتسعت عيناي وانعقد لساني، فما انتظر انصراف حالة الذهول التي أصابتني بل عاجلني بقصة أخرى عن سباح أولمبي شهير هو مايكل فيليبس الذي كسر الرقم القياسي المسجل في سباق 50 مترا فراشة بفارق بلغ أربعة من مئة بالثانية!! (يعني 4 أجزاء من مائة من ثانية واحدة!!) وهنا... هنا فقط اطمأن الشاب اليافع أن الدرس قد وصلني، وعرف بما لا يدع مجالاً للشك أنه لا يجدر بي أن أفرح بفارق الـ8 ثوان بل علي أن أشد على يديه وأحفزه وأرفع من معنوياته ليقلل هذا الفارق بالتدريب الجاد والالتزام التام بخطة المدرب، ومضى الشاب وتركني غارقاً في بحر من التأمل.

ما قيمة الزمن؟ السنوات والشهور والأيام والساعات والثواني، ماذا تعني لنا؟ هل هناك حساسية معينة تجاه مرور الساعات تلو الساعات أمامنا دون معنى أو هدف؟ هل هناك حساسية معينة يجب أن تكون تجاه الثانية الواحدة بل حتى الجزء من الثانية كما علمني الشاب اليافع؟ وهل يجب علينا أن نخطط لنربح ثانية واحدة أو جزءا منها؟ وأي تخطيط هذا الذي فيه التزام وتدريب وعمل مستمر؟ ويحك أيها الشاب اليافع ماذا أردت أن تقول لي؟

هل تتفقون معي في أن الشعور بهذه الحساسية المفرطة تجاه الزمن في سير الحياة اليومي له علاقة بالحضارة؟ إذا واعدك شخص على الساعة الرابعة مثلاً وما حضر إلا بعد 30 دقيقة (وليس 30 ثانية!!) فأي حساسية بالزمن هذه؟ وإذا قالوا لنا إن مشروعاً سينتهي بعد سنتين وتمر الثلاث والأربع ولا حس ولا خبر، فأين حساسية الزمن؟ وإذا كان المسؤولون يعلمون أن الرحلة متأخرة ولا يخبرون أحدا من المسافرين بألا يحضروا وينشأ عن ذلك تكدس المسافرين وتذمرهم، فلو كانت هناك حساسية بأهمية وقيمة الزمن لما حدث هذا! ولو كان للزمن حساسية عند الإنسان، لما رضي بضياع الساعات تلو الساعات في الفراغ، ولما سمح للعمر هكذا بأن يمضي كأوراق شجرة تتساقط واحدة تلو الأخرى إلى أن تذبل وتتلاشى حتى تضعف الشجرة فتذوب وتضمحل دون أن يعمل شيئاً ذا بال، ويمضي العمر سنة وراء سنة ويوماً وراء آخر كما يمضي المرء هباء وفراغا وضياعا في ضياع، ألم يقل الحسن البصري يوماً: "يا ابن آدم إنما أنت أيام فكلما ذهب يوم ذهب بعضك"، وقال أيضا: "الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما".

إن ما أريد أن أقوله إن الوعي بالزمن هو الحضارة! هل تستطيع أن تجعل لكل لحظة تمر عليك هدفا؟ حتى لو كان ترفيها! فالترفيه ضروري لكل من يعمل وينتج، ولكن الغريب أن يكون الترفيه هو الأساس والعمل استثناء عند البعض! أو تمضي على الواحد منا أيامه ولياليه رتيبة روتينية، فلا تخطيط ولا أهداف ولا رؤية واضحة لمسيرة حياتك! وأشد ما سمعت ظرفا هو وصف لمن هو في حياة فراغ في فراغ دون هدف ورؤية فيقولون عنه إنه: "مشغول في الفضاوة"!

قرأت مؤخرا عن "فترة الطفولة المطولة" كإحدى صفات خاصة بالإنسان مقارنة بالحيوان، ولكن هذه الفترة قد تطول عند البعض فيبلغ الأربعين وهو بعد لم يبلغ سن الرشد! وتفصيل ذلك كما جاء في عدد مجلة العربي في أبريل 2015 هو أن الشمبانزي يصل إلى مرحلة البلوغ بعد فطامه بفترة قصيرة، أما البشر فيستغرقون عقداً آخر من الزمن كي يصلوا إلى البلوغ، وأقول: إن هذا هو البلوغ الفسيولوجي ولكن ماذا عن بلوغ ورشد العقل؟

عودة إلى التقرير الذي يقول إن الأطفال تاريخيا وفي القرون الوسطى تحديدا كانوا بداية من عمر السابعة يلحقون بأعمال البالغين، وقد أخر التعليم الإلزامي الذي بدأ تطبيقه في القرن التاسع عشر؛ سن النضج إلى سن السادسة عشرة أو نحو ذلك، وبحلول منتصف القرن العشرين بدا أن التخرج من الجامعة يمثل خط تقسيم جديد، وبحسب أحد العلماء أن من الممكن أن يناهز المرء الأربعين من العمر دون أن يبلغ سن الرشد من منظور تطوري! هذا كلام مخيف!! أربأ بالقارئ الكريم أن يكون في فترة الطفولة المطولة أو مرحلة مراهقة كبيرة لا تنتهي وإن شاب شعر الرأس! وعزاؤنا جميعا في أمثال هذا الشاب اليافع الذي أعطاني درسا في الوعي بالزمن لن أنساه ما حييت.