تساوت الأمور بشكل واضح، لم يعد المثقفون قادرين على قيادة أنفسهم، حتى النظرة الرومانسية للمثقف والنخبة الطليعية للمجتمعات التي مثلتها الثورة الفرنسية ومن ثم الثورة البلشفية تحولت لمجرد "أنتيك" في متحف البشرية، مخزونك وتراكمك المعرفي لا يؤهلك لأي شئ، القدرة على التعبير وتفكيك الأفكار والمواقف بناء على رؤية ما ليست ميزة في هذا الزمن.

الصراحة والحرية بوسائلها أصبحت مشاعا إنسانيا وفرته التقنية التي هي نتاج عولمي، ساد الشعبي وتفوق الحسي الانفعالي اللحظي. الأجيال الشابة لم تعد تأبه بأوهام الانقياد، قدرتها على التعبير عن نفسها أوضح وأعمق وأكثر جرأة، التقنية هي صاحبة الفضل الأكبر لا التنظيرات أو الأفكار، التقنية هي التي ساوت بين الناس وربطتهم ببعض عابرة كل الحواجز.. التقنية هي المفكر الذي يدير الكرة الأرضية ويترك لأفكاره حرية تحديد ما هو صالح وجيد! التقنية التي هي نتيجة زواج التنافسية التجارية والتطور العلمي توحد الجميع وتساوي بينهم وتمنحهم فرصا متعادلة، جيل جديد من منتج يدشن من قبل "أبل" أو "سامسونغ" وغيرها قادر على أحداث صدى أهم من محاضرات الدنيا منذ بدء الحياة وحتى اللحظة، الطوابير الطويلة التي تنتظر لأيام للحصول على جهاز "بلاي ستايشن" أو "اكس بوكس" قبل أعياد رأس السنة أطول من كل الأسطر التي كتبت في شروح وتفسيرات كل النظريات.

عاش داروين في جزيرة منقطعة لينجز فكرة، اليوم يعيش الجميع في جزرهم وينجزون ملايين الأفكار، لم يعد الناس بحاجة لمنفى ماركس ولا هلاوس فرويد، وإذا كانت العولمة قد "جعلت العالم قرية صغيرة" فإن التقنية حولته لمسطح حيث الكل متشابه، إنها لحظة إنسانية مهمة وغير مسبوقة تخلى فيها البشر عن استلهام الرموز في كل المجالات، غدا المراهقون يقودون العالم بإنجازاتهم التي تخرج من مرآب منازلهم المتواضعة لتتحول بعد أشهر قليلة إلى قيم سوقية وأسهم بالمليارات تحرك اقتصادا كونيا هائلا يربط بين أمم شتى، ما دور المفكر في هذا كله؟

شارح النظريات الكبرى وناقد الأفكار، لا شيء، تحول لمتفرج يجلس على المقاعد ويعبر عن ذلك بوسائل ابتكرها مراهقون في عمر أبنائه وربما أحفاده وهكذا الأمر.