خلال وجودي في الولايات المتحدة الأسابيع القليلة الماضية، قابلتُ بعض المهاجرين العرب، بما في ذلك عدد من أبناء وبنات الخليج. وكنت أسأل أصحاب الكفاءات منهم على وجه الخصوص عن أسباب هجرتهم إلى الولايات المتحدة في حين أن العالم العربي، ودول الخليج خاصة، في أمس الحاجة إلى خبراتهم وكفاءاتهم.

وقد تعددت الأسباب والمبررات التي ساقها هؤلاء المهاجرون، وأردت الكتابة عنها لعل حلها يخفف من رغبة الشباب في الهجرة. إذ إن هجرة الكفاءات تشكل خسارة كبيرة للدول التي أتوا منها، ومكسباً صافياً للولايات المتحدة التي كانت دائما تتبع سياسة انتقائية معلنة، لاستقطاب جميع الكفاءات، وتوفر قوانين الهجرة فيها معاملة خاصة لأصحاب الكفاءات، وذلك بهدف اقتصادي واضح هو الحصول على أفضل الكفاءات بأقل النفقات، إذ إن الدول التي جاء منها المهاجرون تتحمل معظم تكاليف تعليمهم وتدريبهم، وتقطف الشركات الأمريكية والمؤسسات الأمريكية ثمار هذا التعليم والتدريب.

وكانت معظم الأسباب التي ذكرها المهاجرون والمهاجرات تتعلق بقلة الفرص الوظيفية في مجالات تخصصهم، أو الرغبة في تحسين أوضاعهم المادية. ويتعلق بعضها بالأوضاع السياسية والأمنية المتدهورة في بلدانهم، خاصة العراق ولبنان والسودان والصومال.

ولكن بعض الأسباب التي ذكرها بعضهم يتعلق بأسباب محددة يمكن تلافيها، ومن ذلك على سبيل المثال:

- عدم تقدير الطلبة المتميزين: تخرجتْ إحدى المهاجرات بأعلى الدرجات في الشهادة الثانوية، ولكن أياً من الجامعات في بلدها لم تحاول استقطابها أو تشجيعها على الالتحاق بها، في حين أن الجامعة الأمريكية، التي كان أخوها طالباً فيها، أرسلت لها دعوة للالتحاق بها حال تلقيها طلبها، وابتداء من سنتها الثانية في الجامعة إلى أن حصلت على الدكتوراة كانت تتلقى تعليمها على حساب منح دراسية حصلت عليها من الجامعة أو عن طريق الجامعة.

- الإجراءات التعسفية: أكمل أحد المهاجرين درجة الدكتوراة في الخارج، وبعد عودته بفترة وجيزة تم فصله من الجامعة دون إبداء الأسباب، ودون اتباع الإجراءات الإدارية والقانونية المتبعة في مثل هذه الحالات، ووجد جميع الأسباب موصدة في وجهه فاضطر إلى الهجرة.

- الروتين الحكومي: يشكو معظم المهاجرين من تعقيد الروتين الحكومي في بلادهم لقضاء أقل الأمور، مما شجعهم على الهجرة، حيث الأمور ميسرة في الولايات المتحدة. ذكر أحد المهاجرين من المشرق العربي، أنه اعتقل في المطار لدى عودته إلى بلاده، لتشابه اسمه مع اسم شخص آخر مطلوب للعدالة، ولم يستطع الخروج إلا بعد أشهر قضاها في سجن المخابرات دون أن تعرف أسرته عنه شيئاً. وذكر مهاجر خليجي أنه وُلد في الولايات المتحدة حين كان والده طالباً في الثمانينيات، وحصل بذلك على الجنسية الأمريكية. وقد قام والده بالإبلاغ عن ولادته لدى الجهات المختصة، إلا أن الطالب اكتشف لدى عودته إلى الوطن أنه لم يسجل في الحاسب الآلي، واستغرق تصحيح وضعه أكثر من عشر سنوات، لم يتمكن خلالها من الحصول على بطاقة هوية أو جواز سفر أو الاستفادة من أي من مميزات المواطنة. ولم يتمكن من تصحيح وضعه إلا من خلال واسطات عديدة وقوية، مع أنه مواطن أباً عن جد عن جد جد. وذكر أحد المهاجرين من شمال أفريقيا أنه قضى فترة طويلة في بلده، بعد عودته من الدراسة، لتجديد أوراقه الثبوتية، لأنه كان هناك لبس في تشابه اسمه مع اسم شخص قد توفي، ولهذا فقد سُجل على أنه قد توفي ولم يستطع تجديد جوازه أو هويته الوطنية.

- الشبهة السياسية: اعتقل قريب لأحد المهاجرين لأسباب سياسية، فأصبح اسم العائلة مدعاة للشك في ولاء أفرادها، مما أدى إلى إقصاء بعضهم، بمن فيهم ذلك المهاجر، عن المناصب القيادية، وهوفي المجال الفني والأكاديمي لا السياسي، مما دفعه إلى الهجرة لأنه لا يعلم متى ستزول هذه الشبهة.

- التعامل الإنساني: بعد أن يقضي الطالب العربي أو الخليجي فترة من الوقت في الجامعات الغربية، يتعود على أسلوب حضاري من التعامل، هو في الحقيقة غير موجود بنفس الدرجة حتى في الدول الغربية نفسها خارج إطار الحرم الجامعي، ولهذا فإنهم يواجهون صدمة حضارية من الدرجة الأولى لدى عودتهم تجعل من الصعب تأقلمهم مع أوضاع بلادهم. ويقابل بعضهم هذه الصدمة غير المتوقعة أول ما يصلون في مطارات بلادهم، أو قبل ذلك في سفارات بلادهم، أو على متن الناقل الجوي لبلادهم. وخلاصة هذه المعاملة أنه لا قيمة للفرد ما لم يكن من أسرة أو طبقة أو قبيلة معينة، أو مدينة معينة، في حين يتميز المجتمع الأمريكي على وجه الخصوص بعدم وجود طبقية ظاهرة، وعلى وجه الخصوص عدم أهمية خلفية المهاجر العائلية والقبلية.

هذه القصص، قد سمعت أمثالها الكثير، حرية بالدراسة والتدبر، لعل في بعضها تشخيصا لبعض الصعوبات التي يواجهها الشباب في العالم العربي، وتؤدي إلى نزوح وهجرة الكثيرين من أصحاب الكفاءات منهم إلى الدول الغربية، على الرغم مما يواجهونه من تمييز وتضييق بسبب أصولهم العربية.