لا تدري من أين يأتي بذلك الإصرار العجيب على حضور المعارض التشكيلية وملاحقتها في كل صالة، رغم أنه لا يفقه كنه تلك اللوحات ولا يفهم ما بداخلها ولا ماذا تعني إسقاطاتها، فمداركه قاصرة ووعيه أقرب إلى الإمحاء والمحدودية، يقف أمام اللوحة ويحاذيها ويمد يده ليتأكد من سطح اللوحة وخامة أرضيتها، ثم يبدأ حد الإغراق في السخرية والعبث اللفظي وتفسير المضمون وما تختزنه اللوحة بأسلوب بائس وفقير يبعث بدوره في نفس الفنان الخيبة ويتلبسه الإحباط، لم نستطع منعه من الحضور والمشاركة فهذا حق لا يملك أحد سلطة انتزاعه أو مصادرته، ولكن علينا ترشيده وتقليص اندفاعاته وملفوظاته السمجة، حضر ذات مساء كعادته فأشرت إلى صديقي المشاكس الفنان التشكيلي المعروف "عبدالله شاهر" أن يتولى أمره فقال: اتركه لي، صافحه شاهر وقال له: "فترة المعرض الآن للعائلات فقط"، عاد صاحبنا أدراجه ولم تمض دقائق إلا وأبصرته يدخل المعرض بصحبة والدته وهي تتوكأ على عصاها، هنا قال شاهر: "هذا لا يقدر عليه إلا الله"، دخل المعرض ووقف أمام اللوحات وسألني بصوت مرتفع: ما هذا المعرض الذي لم أفهم منه شيئا وأغلب اللوحات مرسوم عليها ما يشبه "الكنادر"؟ قلت له: صدقت إنه "حذاء الطنبوري"، كان المعرض لفنان يميل إلى السريالية وهي "مذهب فوق الواقعي يعتمد رواده على الرمزية للتعبير عن أحلامهم والارتقاء بالأشكال إلى ما فوق الواقع المرئي، فتبدو لوحاتهم غامضة ومعقدة"، قال صاحبنا: ومن هو الطنبوري؟ قلت: رجل من بغداد شديد البخل يعمد إلى ترقيع حذائه بالجلود والأقمشة كلما انقطع، حتى اشتهر الحذاء في المدينة وعابه أصحابه على ذلك فأراد أن يتخلص من الحذاء فرماه في الطريق، وذهب إلى السوق واشترى زجاجات عطر من المسك، رأى رجل الحذاء فأخذه إلى بيت الطنبوري ودق الباب فلم يجبه أحد، قذف بالحذاء من النافذة فكسر زجاجات العطر، عاد الطنبوري وأخذ الحذاء وقذف به في النهر، علق الحذاء في شباك صياد فأعادها لصاحبها، وضعها الطنبوري على سطح بيته لتجف التقطها (قط) وقفز بها على سطح منزل به امرأة حامل فأسقطت حملها، وحكم القاضي على الطنبوري بدفع دية الجنين، حمل حذاءه وخرج به إلى الصحراء لدفنه، داهمه الحرس وأخذوه إلى السجن ورفعوا أمره إلى القاضي وقالوا: (لقد عثرنا على القاتل) وكانوا قد وجدوا رجلا مقتولا في هذا المكان، وكان معه كيس من الذهب  فقالوا: إن القاتل سيعود ليأخذ الذهب، وقد شهد أهل بغداد ببراءة الطنبوري، وكم من المواقف التي لم يستطع الطنبوري الفكاك فيها من مصيبته، يا صاحبي هل فهمت؟