تحدثت تقارير صحفية نشرت في "الوطن" عن أن "عضوان من مجلس الشورى انتقدا تواضع أداء هيئة مكافحة الفساد "نزاهة" خلال عملها في الفترة السابقة.. جازمين أن هيبة الهيئة على المحك، وبدأت تضعف نظرا لعدم تعاون الجهات معها"! حيث قال أحد أعضاء المجلس إنه "من الضروري دراسة الأسباب التي تجعل من عمل الهيئة دون مستوى ما نطمح له.. فعندما توكل الجهات صغار موظفيها للتلاسن مع الهيئة التي من المفترض أن ترتعد منها فرائص الوزراء ونوابهم ووكلاؤهم، فضلا عن باقي الموظفين؛ فكيف سيكون موقف بقية الجهات لا سيما الكبرى، مما ينقص هيبتها أمام الناس"!

وعلى هذا الأساس، تم اقتراح "إعداد مشروع نظام خاص بالهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ليحل بعد إقراره من الشورى والحكومة، بديلا عن التنظيم القائم حاليا، الذي لا يعدو كونه نصوصا لتسيير أعمالها الحالية"، ويرى عضوا مجلس الشورى أن التنظيم الحالي يفتقر إلى عنصر "العقوبة"، وهذا عنصر مهم في ردع المتجاوزين على المال العام أو المتجاوزين باستخدام سلطاتهم".

ولهذا نجد أن الجهات الحكومية لا تتعاون مع "نزاهة" وتحجب المعلومات عنها، هذا بالإضافة إلى بطء إجراءات التحقيق والادعاء والقضاء التي تضر بجهود "نزاهة" في تحقيق أهدافها.

اتفق مع أعضاء مجلس الشورى حول ضعف "نزاهة" وأن تقاريرها أقل من المتوقع ودون مستوى الطموح، كما أتفق أيضا مع المجلس حول عدم تعاون الجهات الحكومية معها وكذلك حجب المعلومات عنها، بالإضافة إلى التركيز على الفساد الصغير، وضعف المساءلة.

لكن لا أتفق مع مجلس الشورى حول الاقتراحات المطروحة والأسباب التي أدت إلى ضعف "نزاهة" وإنقاص هيبتها أمام الجهات الحكومية والناس.. صحيح أن عدم فرض العقوبات تلقائيا يؤدي إلى زيادة المخالفات وأوجه الفساد، فالمثل يقول "من أمن العقوبة أساء الأدب"، ولكن هناك مثل آخر يقول "المال السائب يعلم السرقة" أيضا!

في رأيي أن اقتراح نظام جديد لـ"نزاهة" سوف يسهم أكثر في تقييدها وإنقاص هيبتها أمام الناس، فالتنظيم الحالي يعطيها صلاحيات واسعة جدا ومرونة أكثر وهيبة أكثر سواء في إجراءات التحقق في قضايا الفساد أو استقطاب الكوادر المؤهلة.

كما أن التنظيم الحالي لـ"نزاهة" يعد من أفضل التنظيمات على مستوى العالم بسبب الصلاحيات الواسعة الممنوحة لها في مباشرة مهامها المنوطة بها، كما أنه يعطي الصلاحيات للهيئة في تحديث آلياتها ولوائحها وتقدير ميزانياتها دون الدخول في الإجراءات البيروقراطية الطويلة من دراستها في مجلس الشورى وهيئة الخبراء حتى إقرارها في مجلس الوزراء، وإنما بأمر ملكي مباشر وسريع لأي طارئ أو تحديث أو تغيير دون الدخول في هذه الإجراءات المعقدة، وبالتالي فإن هذا التنظيم يعطي نزاهة استقلالية شبه تامة في ممارسة مهامها دون التدخل من أحد أو التأثير على نتائجها، ولهذا السبب سمي بالتنظيم بدلا من نظام.

أما بشأن اقتراح إعطاء "نزاهة" صلاحية فرض العقوبات على المخالفين والفاسدين ليعطيها هيبة أكثر، فهذا المقترح يجعل من "نزاهة" الخصم والحكم في آن واحد، ويخل أيضا بالمنظومة الرقابية والقضائية معا، فهناك جهات مختصة بالتحقيق في جرائم الفساد، ورفع الدعوة القضائية أمام المحاكم.

والسؤال المطروح الآن: إذا كان تنظيم "نزاهة" يعطيها صلاحيات واسعة في ممارسة أعمالها واستقلالية أكثر، وبالتالي يفترض أن يكون لديها قوة وهيبة أمام الجهات الحكومية.. فلماذا يتم حجب المعلومات عن "نزاهة" ولا يتم التعاون معها على الوجه المطلوب؟

قبل الإجابة على السؤال السابق، أطرح مثالاً على إحدى الممارسات الدولية في مجال الرقابة ومكافحة الفساد، ففي الولايات المتحدة هناك جهاز مستقل يرتبط بالكونجرس مباشرة، يسمى مكتب المساءلة الحكومي (GAO)، له سلطات قوية جدا وهيبة أمام الأجهزة الحكومية، على الرغم من أنه ليس له صلاحية في فرض العقوبات، ولكن منهجية عمله تعتمد على المعايير المهنية وهي أحد الأسباب الرئيسة في إعطائه القوة والهيبة، بالإضافة إلى وجود المساءلة لهذه الجهات من الكونجرس الأميركي.

وبناء على ما سبق، فإن الإشكالات التي تواجه "نزاهة" لا تنحصر في صلاحيات فرض العقوبات، وحتى إن أعطيت هذه الصلاحية فرضا، فإن البيروقراطية تستطيع القفز على ذلك، فلها خبرة طويلة جدا في هذا المجال، فعلى سبيل المثال عندما تقوم "نزاهة" بمخاطبة جهة حكومية لإجراء التحقيق في إحدى بلاغات الفساد، فإنه من الطبيعي ألا تتعاون الجهة معها، وفي سبيل ذلك تسلك الجهة وسائل بيروقراطية عدة في إطار الأنظمة واللوائح مثل إضاعة المعاملة، أو إخفاء الأدلة، وتصحيح المخالفة، علماً أن "نزاهة" لن تستطيع فعل شيء إزاء أية قضية دون وجود أدلة إثبات قوية تثبت واقعة الفساد.

فالإشكالية إذاً تتمثل في آليات وأسلوب عمل "نزاهة" نفسها وليس في تنظيمها، بالإضافة إلى وجود ضعف في المساءلة العامة، فلو أن جهة حكومية امتنعت عن إعطاء "نزاهة" المعلومات والبيانات المطلوبة أو لم تتعاون معها بالشكل المطلوب، فإن تقريرا من "نزاهة" يكفي لحجب الثقة عن الوزير أو المسؤول الأول في الجهة الحكومية.

بالإضافة إلى ما سبق، هناك بالفعل حاجة ماسة إلى وجود محاكم متخصصة في قضايا الفساد كمحاكم الأموال العامة المختصة في جرائم الفساد، والمملكة لها تجربة فريدة في القضاء المتخصص، وديوان المظالم مثال جيد على المحاكم المتخصصة في المجال الإداري الحكومي.

وما أريد قوله في النهاية إنه على الرغم من الشكوك في الشارع السعودي في فعالية "نزاهة" إلا أن الهيئة تملك الكوادر المتميزة، التي لديها رغبة حقيقية في الإصلاح ونظرة تفاؤلية للمستقبل في إيجاد آلية حقيقية ومنهجية عمل لمكافحة الفساد تظهر فعاليتها مباشرة للشارع السعودي.