هذا الجزء من المقالات مشغول بسؤال التعليم والأخلاق. سؤال مدى قدرة التعليم على تحقق النمو الأخلاقي لأعضاء العملية التعليمية بمن فيهم المعلمات والمعلمين، الطلاب والطالبات، الإداريات والإداريين، العاملين والعاملات في المدارس. بمعنى آخر النمو الأخلاقي للبشر الموجودين في السياق المدرسي. أحد الشروط الجوهرية للنمو الأخلاقي الذي يمكن تحقيقه داخل المؤسسة التعليمية هو شرط الأمان. الأمان هنا يعني أن تكون المدرسة بيئة تعاون لا بيئة صراع. هذا يعني أن الأضعف وفقا لمعايير القوى في الخارج لا يكون ضعيفا أيضا في المدرسة. الأمان هنا مرتبط بالمستوى الأول للنمو الأخلاقي عند بياجيه ورولز وهو أخلاق السلطة. أي أن يعرف الطالب سلطة عادلة يثق بها. هذه الثقة تتحقق من خلال شعور كل الموجودين في المدرسة، خصوصا أضعفهم، بأن القوانين المطبقة عادلة ومقنعة.
هذا يتطلب بالتأكيد أن تكون المدرسة ومن يعمل بها على وعي بالظروف الحقيقية في خارجها وعلى وعي دقيق بالظروف الخاصة التي يعيش فيها طلابها. من أهم هذه الظروف أن تعرف المدرسة وبدقة عن الحالة الاقتصادية للطلاب وعن آثار تلك الظروف الاقتصادية على الطلاب. في أميركا على سبيل المثال تقدم المدارس الحكومية وجبات إفطار وغداء مجانية للطلاب من العائلات ذات الدخل المحدود. تغذية الطفل قد تكون من أهم العوامل المؤثرة على سعادته في المدرسة وعلى نشاطه الذهني وسلوكه الاجتماعي. من واجب المدرسة تغذية الطفل الجائع. أحيانا الجوع قد لا يكون فقط نتيجة للعوز المادي ولكن لظروف متعلقة بصعوبة الحصول على شراء إفطار. في المدارس الحكومية في السعودية يشتري الطلاب وجبة الإفطار من "المقصف". غالبا تكون عملية الشراء هذه غير مرتبة وبالتالي يحتاج الطالب إلى مهارات صراعية للحصول على إفطاره. الطلاب الأضعف جسديا أو الطلاب الذين لا يفضلون الصراع والزحام قد يفضّلون الجوع على مصارعة الآخرين من أجل الحصول على إفطار. هذا المشهد الذي قد يراه كثير من المشتغلين في التعليم ثانويا؛ هو مشهد أساس واختبار مباشر وصريح على العدالة في المدرسة.
المثال السابق نموذج على كيف تتولى المدرسة توفير بيئة عادلة للطلاب والطالبات كشرط للشعور بالأمان وبالتالي وجود فرصة للنمو الأخلاقي الذي يصل بالفرد إلى أخلاق التعاون بدلا من أخلاق الصراع. موقف المدرسة من الظلم الخارجي يجب أن يصاحبه موقف من الظلم المتوقع داخليا. سأعبر عن هذا الظلم هنا بالعنف. مفهوم العنف يحتاج إلى تفصيل لكي لا يفهم بالمفهوم الدارج والمتداول. العنف عادة يحيل إلى العدوان الجسدي من طرف شخص على شخص. الضرب في المدارس نموذج على هذا العنف. هذا مستوى مرعب من العنف ولا يزال مستمرا ومقبولا، أو على الأقل متسامحا معه في البيئات المدرسية. العنف النفسي مستوى آخر ويعني هنا الاعتداء اللفظي أو المعنوي على الآخر. العبارات القاسية التي يتساهل فيها بعض المعلمين نموذج على هذا العنف. هذه كلها نماذج حادة على العنف ولكن ما أريد الحديث هنا عنه هو الأساس الشعوري والذهني للعنف. أي العنف كعلاقة بين الذات والآخر.
يعرّف جون ديوي العنف على أنه طاقة مهدرة. بمعنى أنها طاقة مصروفة على إعاقة أهداف الناس بدلا من تحقيقها. يميّز ديوي بين الطاقة والقوة القسرية والعنف. الطاقة مفهوم محايد للقدرة على الفعل. العنف هو الطاقة المهدرة. القوة القسرية هي القوة التنظيمية التي نحتاجها لكي لا تتضارب أهداف الناس فيما بينها. العنف بحسب ديوي هو إعاقة الناس عن تحقيق أهدافهم. بناء على هذا التصور فإن العنف في التعليم هو إعاقة الطلاب عن تحقيق أهدافهم. بمعنى أن يكون هناك من لديه أهداف تتعارض مع أهداف الطلاب ويفرض بالقوة أهدافه على أهدافهم. هذا التصور للعنف مهم جدا لأنه يعيدنا إلى العلاقة المباشرة بين أطراف علاقة العنف. بين الذات والآخر. بناء على تصور ديوي فإن العلاقة غير العنيفة هي العلاقة التي لا تعاق فيها الأهداف إلا للضرورة. الضرورة هنا ضرورة داخلية لا خارجية. بمعنى أنها ضرورة الموازنة بين أهداف أطراف العلاقة إذا كان تحقيق أهداف أحدهم يعني إعاقة أهداف الآخر. بهذا المعنى فإن العنف في التعليم ينشأ من عدم إدراك المدرسة أو العاملين فيها أهداف كل أطراف العملية التعليمية. الطلاب وهم الحلقة الأضعف هنا يُعاملون غالبا على أنهم مستقبلون للأهداف المحددة سلفا من المدرسة وكأن التعليم ليس متعلقا بحياتهم الخاصة. هذا مستوى عميق من العنف: أن يباشر (أ) عملية تأسيس جوهرية في حياة (ب) دون أن يأخذ بالاعتبار رأي (ب) في الموضوع. كنت أقول باستمرار لطلابي أن حول كل واحد منهم دائرة خاصة لا يحق لأحد اقتحامها. هذه الدائرة، لو استخدمنا مفردات ديوي، هي دائرة الأهداف الخاصة. أي الدائرة التي تمتلك فيها حق القرار بالكامل. طبعا من حق الطالب أن يدعو ويستضيف من يريد في هذه الدائرة ولكن ليس من حق أحد اقتحامها.
ضد العنف هنا هو إدراك حضور الآخر كشريك مساوٍ في القيمة والأهمية. الطلاب غالبا ما يتم إدراك آرائهم ومشاعرهم في مستويات أقل أهمية باعتبار أنهم "أطفال" ولا يدركون مصالحهم. هذه مقدمة قوية لتبرير العنف باعتبار أنها تضع أهداف الطلاب على درجة أدنى من الأهمية، وبالتالي تهيئ المناخ لأهداف أخرى أن تسيطر عليها وتعيقها. مبررات العنف ستكون جزء لاحقا من هذا النقاش ولكن أريد أن أختم بإعادة صياغة هذا المستوى من العنف: العنف هو إعاقة الأفراد عن تحقيق أهدافهم. إذا لم يكن تحقيق كل الأهداف ممكنا فإن المبرر الوحيد للحد من الأهداف هو الموازنة بالتساوي بين أهداف الجميع. في المقالة القادمة سأتحدث عن مستوى إضافي من مستويات العنف.