في أيام دراستي في الكلية جاءنا زائر يسأل عن طالب مستجد يقيم معنا في السكن اسمه "معيض"، كنت طالبا مستجدا أيضا، لم تكن دفعتنا كبيرة، حاول الزملاء مساعدة الزائر في البحث عن معيض ولكن أحدا لم يتذكره!
حتى عرفنا بعد ذلك وبشكل مصادف أنه يعني زميلنا القروي الذي نناديه "مؤيد" وتأكدنا من ذلك تماما بعد أن ظهر مؤيد رافعا صوته مرحبا بابن عمه الزائر.
هل معيض هو مؤيد؟ ما تفسير ذلك؟
في الحقيقة أن اسمه الأصلي كان "معيض"، ولكن بما أن قوائم الأسماء كانت تكتب بالإنجليزية، وبما أن تهجئة الاسم الإنجليزية في معيض هي نفسها تقريبا في مؤيد، فقد عمد الأساتذة والطلاب إلى طروق المألوف ومناداته "مؤيد" دون أن يفطنوا إلى احتمال وجود اسم آخر فضلا عن أن يكون هذا الاسم هو "معيض"!
أما معيض نفسه فيبدو أنه "استأنس" بهذا الأمر كثيرا، فاستمتع مبتهجا مدة تقارب الشهر بهذا الاسم الجديد حتى أفسد ابن عمه هذه البهجة بزيارته التي أعادته على حقيقة أنه ما زال "معيض".
العجيب في هذا الأمر أن "معيض" بالفعل بدا لنا بعد هذه القصة أقل تمدنا وأكثر قروية منه في حقبة "مؤيد" الزاهرة!
هل كان معيض ونحن محقين بتصوراتنا عن مثل هذا الأثر للأسماء، هل للأسماء تأثير فاعل في الماهيات، ولا يقتصر دورها على مجرد الإشارة اللغوية للأشياء، وإلى أي مدى سيكون هذا التأثير لو وجد؟
عرفت رحلة الفكر عدة مذاهب في التعامل مع هذا السؤال، فقد عرفت البشرية المذهب المتطرف المتاخم للأسطورة، الذي يضفي على الأسماء ذاتها قوى فاعلة على ما يوسمُ بها من كائنات، فلعل أكثرنا قد سمع مثلا عن قصة المعتقد الشائع بتغيير اسم الطفل "وعادة ما يكون إلى اسم أقبح" عند إصابته بمرض خطير يخشى منه على حياته، ولعل بعضنا سمع تتمة القصة المخبرة بنجاة الطفل بعد ذلك في إيماءة ضمنية إلى صحة ذلك المعتقد، مع إغفال إحصائي للقصص التي هلك فيها أطفال آخرون دون أن تفيد حيلة الاسم المروية تلك.
ولكن هناك من الآراء ما يرى في الأسماء قوة مؤثرة، ولكن ليس على المسميات، إنما على من يتعاطى تلك الأسماء ويتفاعل معها من الناس.
فالأسماء لها تأثيرها من خلال ارتباطها بالذاكرة، وتعوّد الذاكرة على تلقي أسماء بعينها في سياقات معهودة لها، حيث تعمل الذاكرة على إكساب الأسماء سمات ما تعهده من الأشياء المقترنة بها.
بل إن الاسم المألوف قد يتمتع بدرجة من الثقة والارتياح تنعكس على الثقة بالماهية الحاملة له، نتيجة مألوفية طروقه للذاكرة، دون سبب منطقي واضح سوى ما جبل عليه الدماغ البشري من الثقة بمألوفاته، ومن ذلك ما شاهدته في إحدى التجارب العلمية الطريفة التي أجريت على بعض الأشخاص العازمين افتراضيا على المتاجرة بالأسهم، بحيث يختار العميل الاستثمار مع مديرٍ مالي لا يعرف عنه سوى اسمه، فكانت النتيجة أن أغلبية العملاء يفضلون المجازفة مع من يحملون الأسماء المألوفة، دون أي دليل على علاقة ذلك بمقدار ما سوف يجنونه من الربح أو ما قد يتحملونه من الخسارة!
وهناك من يرى أن للأسماء تأثيرا خطيرا، من حيث قدرتها على التضليل وإعطاء المتداولين للاسم معرفة وهمية بمسماه، فشعور الشخص بكونه يعرف اسم شيء ما، يكون معادلا لديه أحيانا لمعرفته بالشيء نفسه، دون أن يفطن إلى أن معرفة الشيء معرفة حقيقية أمر مختلف عن معرفة اسمه!
وقد أشار إلى هذا المعنى الفيزيائي الكبير "ريتشارد فاينمن" في كتابه "متعة اكتشاف الأشياء"، حيث عزا فيه جزءا مهما من فرادته العقلية إلى دور والده في تنشئته بطريقة تحميه من الوقوع في هذه الخديعة، فنراه يروي كيف أن والده كان يأخذه في جولات برية بشكل دوري ويهتم بأن يساعده في معرفة ما يدور حوله، مع أقل قدر ممكن من استعمال الأسماء، فإذا سأل عن اسم طائر يشاهدانه معا، يجيبه والده: "إنهم يسمونه طائر سمّان بني الرقبة، ولكنهم يسمونه بالبرتغالية كذا، وبالإيطالية كذا، وبالصينية كذا، ثم ماذا؟ ها أنت تعرف اسم الطائر بأي لغة تريد أن تعرفه بها، ولكنك في النهاية لن تعرف أي شيء عن ذلك الطائر، أنت تعرف فقط طريقة نداء أناس آخرين من أماكن مختلفة ينعتون بها طائرا معيّنا، تعال فلننظر إلى الطائر إذا كنت تريد التعرف عليه"!
أخيرا، ماذا لو تسنّت لزميلي "معيض" طريقة النشأة نفسها، واستطاع استيعاب ما فهمه فاينمن بشكل مبكر؟