إن جاء الغد ولم تجديني...لا تحزني فمع كل نفس ستجدين أنني بقربك، أبحر داخل دمك، أماه أرجوك لا تبكين فقد تذرفين جزءا مني مع كل دمعة من عينيك هاربة، آه يا أماه تخرج مني الآه وتحترق قهرا، أليس القهر قاتلا؟!
وا حسرتاه.. أين كنا وكيف أصبحنا، بالأمس كنا قلبا يدق على أنغام قلب، روحا تسمو وتنمو على روح، وا حسرتاه على أمس قريب، كم من أماني وكم من أحلام كُتبت في الهواء لتبقى تدور حول الأحياء تعدهم بمستقبل وتشدهم إلى ضياء لم يكن سرابا بل حقيقة، لم نره كما يراه الناس، رأيناه بمشاعر صافية وأمل متجدد، رأيناه ينتظرنا خلف التلال، هواء سبقنا إلى الوديان والأنهار، يبشر بقدومنا تماما كبشارة الربيع بمولد الأرض من جديد، أين هي اليوم؟
سُرقت منّا بأياد همجية، وقلوب سوداء بربرية، أكلت لحومنا ونحن أحياء، باسم الحرية.
ليتك يا أماه لم تبيعي كل حُليك من أجل أن أنجو! كم أنا خجل من يدين زينهما والدي، رحمه الله، يوما بالذهب حبا ووفاء، ما زلت أذكر الابتسامة على وجهه كلما سمع نغم الأساور وأنت تدورين في المنزل، هنا غسيل وهنا عجن، وهناك أمام المرآة وأنت له تتزينين، خلعتِ الأساور واحدة تلو الأخرى ووضعتها بين يداي، حينها شعرت بأنك تسلمين تاريخك لي كي أكمل أنا الطريق... وحدي يا أماه كيف أكمل؟!
أعدتهم إلى معصمك وأسرعت إلى الخارج باكيا، لم أشأ أن ترين دموع من ربيته على أن يكون رجلا ينهار وتنهار معه كل آمالك، أردتُ أن تريني دائما قويا كأجدادي، ليس رهينا للحظات ضعف، هناك في حديقة الدار لجأت وحيدا إلى نزيف روحي؛ ربما يدلني إلى طريق حلم شارد، ربما يرد لي أملا تائها!
واقترب جراد الموت من ديارنا، والرصاص يحاصرنا وأصوات المدافع تختلط بأصواتهم المتوحشة التي علت حتى على أصوات المآذن وأجراس الكنائس!
أباليس الأرض دمرت أرضنا ودارنا، فهربنا بملابس رثة تحت الرعد والمطر، هل كانت أياما أم كانت سنين؟
لا أدري! ولكنا بعد عذاب وجوع وبرد وصلنا إلى المخيم، سُجلنا رقما من ضمن الأرقام، خيمة وغطاء ولقمة! أي ذل.. أي هوان! بعد نعيم الوطن نعيش بوجع الغربة! الذئاب البشرية تحوم حول أخواتي، وإخوتي بدل الدراسة للعمل المهين يُسخرون! كان يجب أن أرحل يا أمي، لم يكن بإمكاني أن أبقى وأراقب انطفاء روحك وأنتِ تذوبين أمامي كالشمعة، كان يجب أن أرحل.. أبحث عن حلمنا الضائع لكن هذه المرة خلف أمواج البحار! قرأت حيرتي وقلة حيلتي، واقتربتِ للمرة الثانية وقدمتِ لي أساورك: "خذها يا ولدي خذها يا كبدي وانجُ بنفسك ثم أرسل لنا لنبدأ حياة جديدة على أرض بعيدة، أنت الآن أملنا لتنقذنا من هذا الجحيم"، ليتك يا أماه لم تفعلي!
قال بائع الوهم، تاجر البشر، وهو يدفعني إلى مركب الموت: "أسرع يا رجل ماذا كنت تنتظر سفينة بخمسة نجوم؟!"، نظرت إليه وعيناي تكادان تقفزان من رأسي رعبا: "لكن هذا المركب مزدحم ولا أظنه سيتحمل الرحلة!"، أجاب بصوت كفحيح الأفعى: "أنت مهاجر غير شرعي وليس لك أن تشترط، اقفزْ إلى المركب وإلا أخذ مكانك رجل آخر".
قفزت إلى المجهول، إلى الموت بقدماي، لم يكن أمامي أي خيار آخر! وبدأت رحلة العذاب الثانية، رياح عاتية وأمواج عالية، أطفال يبكون وأمهات حائرات عمن يخففون، عن رضيع بين أحضانهن، أم زوج يراقب آلامهن بقلة حيلة، أم قلوب ترتجف تكاد تقفز رعبا من بين أضلاعهن! ورجال المنفى الموعود يراقبون بأعين زائغة لمن يمدون القوة للرضيع أم للطفل أم للزوجة أم الأخت أم الأم العجوز التي تصلي وتصلي. ملحمة الموت كانت تُكتب على صفحات البحار، وسجل يا تاريخ سجل!
هل وصل هو وأمثاله؟ لقد ابتلعتهم البحار ولفظتهم جثثا هامدة على شواطئ الميعاد! مئات ومئات من المهاجرين غير الشرعيين يوميا يركبون الموت سعيا إلى الحياة! لحمنا أكلته وحوش البحر، وأجسادنا تناثرت على الشطآن! هل تُصغ يا عالم.. هل تُصغ يا مدعي الإنسانية.. هل وصلتك روح رضيعي؟ هل تلذذت بطعم دمائه؟!
آمل أن تدق أرواحهم أبواب ضمائركم... آمل أن توقظها لتعيش عذابا أبديا سرمديا!
ماذا؟! أتذرفين الدمع يا هيئة الأمم، من سيصدق دموع التماسيح بعد اليوم، غفلتم عن شياطينكم وهم يزحفون إلى بلادنا، وتجاهلتم جرائمهم حتى طرق سفراء الموت أبوابكم! الآن تعرفون أعداد من غادر من أبنائكم من شياطينكم؟! أين كنتم حين غادروا وفي بلادنا "هاجوا وماجوا"؟! أحقا تتباكون على موتانا، على قتلانا، على شهدائنا.. بعد ماذا، بعد ماذا؟!
هذه المرة، نحن من سيكتب التاريخ، ونحن من سيسجل سواد أعمالكم، وأبدا لن ننسى ولن نسمح لأبنائنا، لأحفادنا، للأجيال القادمة، أن تنسى جرائمكم، ظلام أرواحكم، لا تحدثونا عن الإنسانية، عن الحرية، عن الديموقراطية، لقد شبعنا ازدواجية. لقد شبعنا أكاذيب!
نعم، قد نكون وصلنا القاع من الدمار والهمجية ولكن كما فعل أجدادنا مرة بعد مرة، من القاع سنسمو ونرتقي من جديد!