كان المشهد مُثيرا للاهتمام، خاصة أنني اشتبهت بمعرفة ذلك الرجل الذي توقف بسيارته بجانب الطريق وجلس يبكي بحرقة بينما يقترب منه شخص عرفت لاحقا أنه سائقه يحاول تهدئته لكن الرجل ينهره قائلا: "أغرب عن وجهي اليوم" فرد السائق مؤكدا استحالة أن يتركه وحينها اقتربت بسيارتي لأتحقق أنه صديقي القديم الذي اختار طريق البيزنس مُبكرا حتى صار صاحب سلسلة مطاعم شهيرة، وشريكًا بسلسلة معارض سيارات، وغيرها، وصار يتعامل بالمليارات.
إنه بعينه "س" فتركت سيارتي وجلست بجوار صديقي القديم فاحتضنني ودخل في "نوبة بكاء عنيفة" ورحت أهدهده كالأم، وهو يعتذر عن تقصيره بحقي ورفاقه، فناشدته بتجاوز الأمر، ويحدثني عما أوصله لهذه الحالة، فأجاب: شؤون عائلية، فطالبته بالتوضيح والفضفضة، فروى حكاية مريرة مع زوجته التي طلقها مرتين، وأعادها ليتربى ولداهما الشابان الجامعيان، لكنه اكتشف مؤخرا كراهية ابنيه له، حتى وصلت لدرجة أنهما وبخاه وطرحاه أرضا، واتهماه باللهاث خلف جمع المال وأن أمهما هي التي ربتهما، وحين ذكرهما بالجامعة الأجنبية المرموقة التي ألحقهما بها، وسيارتيهما اللتين اشتراهما، والنفقات الباهظة، سخرا منه قائلين: "إن البواب يربي أبناءه، فماذا فعلت أكثر؟ أنت مجرد "كيس نقود" ولم تكن يوما أبا يهتم بنا".
زرعت "الزوجة الشريرة" كراهيته بنفوس ابنيهما لدرجة العقوق والإهانة واستخدمتهما سلاحا قاتلا لتكسر قلبه، وفشلت محاولات الأقارب فما تزرعه الأم ينمو ويرسخ بالوجدان، ويعجز المنطق حياله، فالضربة موجعة، وبالطبع ليست وليدة اليوم لكنها "حصاد عمر" ظلت الزوجة تُمارس دور "الساحرة الشريرة" لتتعقد الأمور حتى وصلت لطريق مسدود.
تحدث كثيرا عما فعله لأجلهما والتحديات الصعبة التي واجهها وسط "حيتان السوق" وهذه الثروة ستؤول لابنيه ومجددا عاودته نوبة بكاء متشنجة، حين روي كيف دفعه ابناه ليسقط على الأرض بينما الزوجة تضحك بشماتة وتتوعده بالمزيد من الإهانة، ويؤكد أنه يستحي رواية الواقعة لأبويه وأشقائه وفقد رغبته بالعمل، وصار عصبيا متقلب المزاج، ولولا فريق عمله المخلص لانهارت تجارته، لكنهم عملوا معه منذ البداية، ويشعرون أنه يمر بمحنة قاسية، لكنهم لا يتدخلون بحياته الشخصية.
تربطني علاقة حب واحترام بوزير الأوقاف فاتصلت بفضيلته طالبا تحديد موعد فقال الجو اليوم مُناسب وسأنتظرك، فاصطحبت صديقي وبمكتبه ورويت حكايته باختصار، فاستفسر منه عن تفاصيل كثيرة، وبعدها قال: هذان الولدان زرعت أمهما العقوق بنفسيتهما، فاتركهما للزمن الكفيل بتلقينهما دروسه القاسية، لكن امنحهما وأمهما كل ما كنت تدفعه لانتهاء دراستهما، واهجر المنزل لآخر، وابحث بعناية عن زوجة أخرى.
وعقب زيارة الوزير توجهت لطبيب نفسي مرموق واستمع لصديقي، واكتشف أنه أدمن المهدئات، وأنه ربما تُباغته "نوبة مُفاجئة قاتلة" لهذا يحتاج لتردده ثلاث مراتٍ أسبوعيا، والابتعاد عن زوجته وابنيه خلال الشهور المُقبلة، فحياته بخطر حقيقي، وينبغي التزامه بتعليماته بصرامة، فحالته النفسية والعصبية متأخرة.
ذهبنا بعدها لمقهى طالما ارتدناه أيام البدايات، وبعدها طالبته بمرافقتي ورغم اعتراضه بداية، استجاب وجهزت شقة خالية بمنزل أبي، وكلفت خادمة أمينة تعمل معنا منذ عقود بخدمته، ونام للصباح واستيقظ ليتوجه لمكتبه، مؤكدا انتظاري لنواصل دراسة الموقف، وبالفعل ذهبت، فعرض عملي مديرا لشركاته حتى يتعافى، فاعتذرت لأنني أفتقد مؤهلات البيزنس، ووعدته بدعمه إنسانيا، ورجوته بالانغماس بالعمل، والانتظام بمواعيد الطبيب.
أوجاع كالجبال حاصرت صديقي وفشلت الوساطات، فالزوجة تُدرك تعلقه بولديه وتستخدمهما لتركيعه وإهانته، وتضاعفت مطالبها وأولادهما لاستنزافه ماليا، ورغم استجابته لرغباتهم، لكنها شهّرت به لدى عائلتيهما وبالأندية، ولم تحفظ أسرار عمله فضربته بمقتل، فكان يروي لها شؤون عمله بحُسن نيّة ولبناء جسور الثقة، لكنها كانت تُسرّب المعلومات لمنافسيه، فتدهورت أوضاعه وصار مُهددا بالإفلاس وتلاحقه البنوك وتلطخت سمعته بالسوق، ورفض نصيحة والديه بالتحفظ بالحديث بعمله أمام زوجته بعدما صارت عدوا ينطبق عليها قوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ" (التغابن 14) وانتهى الحال بصديقي الملياردير لمصحة للأمراض العصبية والنفسية، واستغلت زوجته الأمر ورفعت وولداهما "دعوى حجر" وخلال آخر زيارتي سألني ماذا أفعل؟ والحقيقة فالإجابة واضحة، لكنني آثرت نصيحته باستشارة قلبه والحسم.