قدرنا أن نعيش في هذه اللحظة التاريخية الفاصلة في حياة البشرية، في عالم مائج من الأفكار والتحولات والصراعات والأيديولوجيات الفانية والصاعدة، وفي بقعة جغرافية لها قيمتها التاريخية والحضارية والاستراتيجية الاقتصادية التي تجعل العالم كله يقف على قدم إذا حدث خلل فيها.

هذه اللحظة التاريخية التي نعيش فيها التي شهدت تحولات لأفكار ما قبل الحداثة والحداثة وما بعدها، وها نحن نعيش مرحلة ما بعد ما بعد الحداثة، التي أصبحنا فيها متأثرين لا مؤثرين، ومطالعين لا فاعلين، نقتات على الأفكار بعد أن كنا سادتها، ونتناوش على استجلابها والترويج لها ونحن نمتلك الفكرة الناجزة للثقافة الكونية التي تحل ألغاز التاريخ، وتبين المعنى من النشأة والسيرورة والنهاية والمعاد.

إن ضمور العقل الإسلامي القادر على التدخل السريع في مسيرة البشرية الضائع، والقادر على طرح الحلول بدلا من سيل الأسئلة الوجودية هو المشروع الذي لا بد من أن تتوجه إليه الأنظار، فالسلع اليوم ليست سلعا استهلاكية تتعلق بعيش الإنسان المادي، بل في القدرة على "الإجابة" على الأسئلة القلقة التي أشقت الإنسان وأفقدته معنى الحياة، وجعلته يتوجه نحو البهيمية العبثية التي تعيد أقوال الدهريين القدامي "إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر".

لقد توهمت "الحداثة" في بداية القرن السابع عشر تقريبا أن لها القدرة في فهم كل شيء بعيدا عن "الله"، وأن الإنسان عنده القدرة على أن يصنع حياته ويسعد ويقيم أودها بلا حاجة للعلاقة التي تنتظم بين الخالق والمخلوق، وأن العلم المادي التجريبي السبيل الوحيد إلى فهم الحقائق، إذ شكلت الحداثة النقلة النوعية التاريخية من الحضارة المسيحية إلى عصر "الحداثة" التي ادعت امتلاك فهم الكون وأنها لا حاجة لها بأي شيء خارج عن الفضاء المادي وإن كانت تقر بـ"الربوبية" مع نفي الأثر للخالق على الخلق والمخلوق، فتضخمت الأنا الحداثية التي ربطت بين السعادة والكشف المادي.

إن هذا ليس إنكارا للمنجزات الحداثية على الحياة البشرية، وأنها قدمت الكثير من الكشوفات التي خدمت البشرية ومعيشته، ولكن الإشكالية هي في الاكتفاء المادي الذي يربط التقدم ومفهومه بقدر ما يحقق الإنسان المتعة في الحياة، وكانت الفاجعة الكبرى التي صدمت الحداثة هي أنها وفي أوج تقدمها المادي دخلت في حروب كونية أهلكت الحرث والنسل، وأن منتجات الحداثة أصبحت سبيلا للشقاء والحروب والمشكلات بدلا من إحلال الفردوس في الأرض، فسببت هذه الصدمة ظهور أفكار "ما بعد الحداثة" التي انقلبت على المفاهيم الحداثية، فنشأت الأفكار "العدمية"، والضياع والتيه المعرفي الذي هدم كل المقررات الحداثية، فلم يعد بالإمكان فهم أي شيء في الوجود، وأن النسبية هي التي تحكم كل التصورات والأخلاق، وأن لا معنى للحياة الإنسانية ولا تميز لها على غيرها، فظهر مفهوم "موت الإله"، و"تفكيك الإنسان" وانتهى عصر الأيديولوجيات الكبرى، وانهار العقل، وفنيت القيم، وحتى مفاهيم العلم التجريبي وقواعده ونظرياته انهدمت وصارت محل الشك والريبة حين بدأت تظهر مفاهيم "الفيزياء الحديثة " أو "فيزياء الكوانتم" التي قضت على كثير من مفاهيم الفيزياء التقليدية، فجعلت العقل العلمي في تيه وضياع حين يرى أنه يعيش في عالم معقد وعيي عن الفهم لا كما توهمته أفكار الحداثة، وكما كان إنيشتاين يتخوف من أننا نعيش في عالم يشبه "حوض السمك".

إن هذه اللحظة التاريخية هي اللحظة التي لا بد من أن يبرز فيها "المثقف المسلم" الذي يستوعب ما يجري في الحياة، ويلم بأفكارها، ويدرك أهمية العودة إلى "القرآن والسنة" في سبيل رسم منهجية تعيد للإنسان كرامته وقيمته اللتين حطمتهما الحداثة وما بعدها، وأن هذا جهد "تجديدي" عظيم يحتاج إلى الخروج أولا من دائرة التناوش التي أرهقت العقل المسلم، والنظر إلى السياق الحضاري بوعي، وإعادة الاعتبار الصحيح إلى مفهوم "الدعوة الإسلامية" التي كانت مهمتها في زمن مضى "تعبيد العباد لله تعالى" والخروج بالإنسان من دائرة التيه والشك والريبة إلى فهم الحياة بإيمان واطمئنان وعلم، والتفكر في الأثر المدمر الذي أحدثه "تسييس العمل الدعوى" حتى أحال الشباب المسلم الذي ينتظر العالم منه بث رسالة الإسلام والنور إلى كائنات سياسية لا تفهم من هداية الله إلا المنظور السياسي فقط، والسعي إلى استيعاب الأفكار العالمية ليكون الأخذ والرد على بينة بلا قطعية مطلقة، ولا تماه مميت، وهذا هو المنطلق الصحيح لتقديم الإسلام للناس بصورة نقية صافية بعيدة عن التشويهات التي أحدثتها تيارات الغلو والعنف والتي تحتاج إلى جهود مضنية لترميمها وتنقية الإسلام وما علق بالأذهان من أوضارها.