إنها لحظة فارقة لكل مشروع التنوير والنهضة العربي بصيغته الشامية وتنظيرات مفكريه منذ حملة نابليون على مصر والشام 1801، جاءت الثورة السورية 2011 لتقول إن كل ما طرح عن صيغ توافقية في فضاء قومي أحيانا علماني أحيانا أخرى لبناء الدول والمجتمعات استنادا على أفكار التنوير الأوروبي واستجلابا لها في المشرق العربي كان وهما حقيقيا، وإن ما استهلك من نقاشات منذ أكثر من قرنين من الزمن وحتى الآن بتجاربه وصيغه السياسية والفكرية كان هراء محضا ومحاولة للالتفاف على الحقيقة الإسلامية الراسخة في تشكيل وتكوين إرث تلك المجتمعات، لا أحاول قول كلام شعبوي يدغدغ جهة أو طرفا، لكن امتحان الثورة السورية الرهيب منذ مارس 2011 م للأفكار والقناعات والأحزاب والمثقفين يعطينا تلك المحصلة الصادمة التي تحتاج من كل مثقف حقيقي الوقوف أمامها والتساؤل بصدق وصراحة، كيف كنت غبيا إلى هذه الدرجة؟
غضب جورج طرابيشي من الجابري بعد معركة "نقد العقل العربي" الطويلة لأنه ألمح إلى انتمائه الديني في مقال شهير في جريدة الحياة، اليوم يتماهى طرابيشي مع نظام القتل بصمته وحياده لدوافع منها انتماؤه، غير طرابيشي كثيرون، ساسة وفنانون ومثقفون، مطربون تخلوا عن مصالحهم الحياتية وروابطهم المنفعية لدوافع لا تفسير لها، حتى بعد سنوات الصراع الخمسة الطويلة وانكشاف كل القبح واللاإنسانية والسلوكيات التي تتضاد وكل مبادئ الأديان والمذاهب والطوائف إلا أن ذلك التواطؤ غريب، فجأة تخلى العلمانيون واللادينيون واليساريون عن كل ذلك من أجل الاصطفاف الطائفي في خندق النظام الإجرامي، تكشف لنا التجربة أننا كنا ضحايا لتمويهات فكرية من ذلك الوقت البعيد والنقاش الضبابي حول النهضة بصيغها القومية العلمانية الاشتراكية ومنتجاتها السياسية في المنطقة بعد ذلك، كان الدرس قاسيا وكانت الخديعة مرة ومتقنة استهلكتنا طويلا لكن لحظة فارقة كالثورة السورية وجهت بمشروعها أقوى مشروع نقدي لكل ما طرح وكتب ونظر له شاميا حول أفكار النهضة والتنوير والحداثة.