تربيت منذ صغري على أهمية التفوق الدراسي وتحصيل الدرجات العالية، فكانت أهم ما أفكر فيه طوال فترة دراستي الابتدائية وحتى الثانوية، وعندما سافرت إلى أمريكا فتح الله لي بابا للعمل التطوعي والخيري، فكنت أضع فيه قرابة ثلث وقتي، وكم كنت أعجب أنني في كل مرة أقلص فيها من وقت العمل الخيري بذريعة تحصيل علامات أفضل ينتهي بي الأمر بنتائج دراسية أقل، بل على قدر ما أعطي من وقتي لغيري، يبارك الله في وقتي وييسر لي أمري وأحقق نتائج لم أكن أتوقعها في كل المواد الدراسية.
إذا سألت إنسانا مؤمنا يقول لك بكل بساطة وثقة وإيمان "بالطبع إنها البركة"، ولكن العقل والفكر لن يفهم هذا المنطق.. لماذا؟
إذا دخل أحدنا حديقة مصممة تصميما جيدا ومعتنى بها، فإننا سنستشعر جمالها ونحس بالراحة والسكينة، ولكننا لو دخلنا غابة لأول مرة في حياتنا، فإننا سنشعر في بادئ الأمر بالوحشة ونحس بالفوضى وانعدام النظام، كل شيء متداخل في الآخر لا نميز بين الحي منها والميت، والأخضر واليابس، كل شيء متداخل في الآخر بطريقة عشوائية أو كذلك يبدو لأول وهلة، ولكننا لو حاولنا أن نراها بالطريقة التي وصفها إيكارت توللي في كتابه (أرض جديدة): لو استطعنا أن نستحضر قدرا كافيا من السكون الداخلي بإيقاف التفكير، فعندها فقط سيستيقظ فينا الوعي، وبالوعي سنبصر ما عجزنا عن أن نراه بأعيننا وعقولنا، سنبصر ونستشعر قمة التناغم الخفي والانسجام في كل ما يحيطنا، كل شيء يقع في مكانه الصحيح المفترض له أن يكون فيه والذي لا يمكن أن يكون في غيره ولا غير ما هو عليه، إذاً ليس هناك من عشوائية بل نظام شمولي دقيق أوهمنا العقل أنها عشوائية.
نظام الغابة أكثر تعقيدا من أن يفهمه العقل، فهو أعقد من التصنيفات الذهنية المبسطة للعقل وتعريفها لما هو جيد أو سيئ، لا يمكن فهم الغابة من خلال العقل والفكر، وإنما من خلال السمو فوق الأفكار، من خلال الوعي يتم الإدراك بأنك لست منفصلا عن كل ما حولك، أنك جزء منه فتخرج بذلك من حيز نطاق الفكر الضيق وذكاء العقل المحدود إلى الذكاء الكوني الذي يُسير كل شيء حولنا بدقة متناهية وإبداع عجيب.
العقل والأفكار تمتلك ترتيب الأشياء، ولكن تدبير الأشياء من حولك أكبر وأعظم من أن يفهمه عقل أو يحيطه فكر، وكذلك الحياة نظام شمولي متداخل مترابط لا يقبل التجزئة والانفصال، وبالوعي فقط نخرج من محدودية الذكاء العقلي والترتيب إلى فسيح الذكاء الكوني والتدبير، ولذلك فإن العقل والفكر لن يفهم منطق البركة.
ولكن لماذا نحن عالقون دائما في الحيز الضيق من الحياة، ونحرم أنفسنا فسحة ونعمة أن نصبح جزءا من النظام والذكاء الكوني والتدبير الإلهي، إنها الأنا.. الأنا التي فينا هي التي تفعل ذلك، الأنا بتماهيها مع الأفكار.
إن العقل أداة رائعة للتفكير المنطقي وإيجاد الحلول، ولكن المشكلة هي أن يعتقد الإنسان أنه هو هذه الأفكار وأن يُعرِّفَ نفسه من خلال هذه الأفكار فتصبح هويته، فيقولب نفسه في إطار وحدود هذه الأفكار، أن يظن أن العالم من حوله يمكن أن يُفهم بشموليته بالعقل وحده، نعم العقل أداة فعالة ولكنها يجب أن تبقى خادمة للذات الحقيقية، للمصدر، لروح الإنسان، فالعقل لا يعد إلا أن يكون انعكاسا لهذا المصدر، وبالتماهي مع الأفكار والعقل ينقلب الخادم ليصبح سيدا، ويبدأ العقل في تجزئة الحياة، هذا لي وهذا لك، إنه الانفصال الذي تحبه الأنا وتعيش عليه.
إن قدرة كل شيء على أن يتواصل مع كل شيء في الكون هي ما تجعل الكون أعقد من أن يفهمه العقل ويتوقع ردود أفعاله.
هذه الحقيقة العلمية التي ارتبطت بنظرية سميت بنظرية التناقض (EPR) نسبة إلى الحروف الأولى الثلاث للعلماء أينشتاين وبودولسكي وروزن، وأثبتها (Alain Aspect) ألين أسبيكت وفريق من الباحثين من جامعة باريس عام 1982م والتي تعد واحدة من أهم التجارب في القرن العشرين، والتي مفادها أنه تحت ظروف معينة فإن الجسيمات دون الذرية مثل الإلكترونات قادرة على الاتصال فيما بينها آنيا والتأثير على بعضها بعضا بغض النظر عن المسافة التي تفصل بينهما سواء كانت 1 سم أو آلاف الأميال، وكل شيء في الكون مكون من جسيمات دون الذرية بما فيها الإنسان.
إنه الكون المتداخل المتأثر والمؤثر بكل ما حوله، معنى ذلك أن كل عمل نقوم به وحتى نية عمل ستؤثر في كل شيء حولنا، ولا يحُدُّ هذا التأثير مسافة أو بعد، معنى ذلك أن أذكى عقل على وجه الأرض لن يرقى في تفكيره وتخطيطه لجزء طفيف من الذكاء الكوني، لا يستطيع أن يفهم هذه التداخلات والتأثيرات وأن يتوقع النتائج، فكيف إذاً يدخل الإنسان في هذا الذكاء الكوني؟ وما الذي يمنعه؟ الذي يمنعه هو (الأنا)، (الأنا) تحول بيني وبين ذلك لأنها تظن نفسها منفصلة تحارب لمصلحتها هي فقط، تظن أنها بذلك ستحصل على نصيب أكبر من هذا العالم، (الأنا) مغرورة بأفكارها تريد أن تفهم كل شيء وتعتقد أنها تحيط بكل شيء، أما الذات الحقيقية التي هي الروح، فإنها تدرك أنها جزء لا يتجزأ من هذا الكون، وأن الإنسانية كلها خلقت من نفس واحدة ومصائرنا متشابكة ومتداخلة، تدرك أنه على قدر انفتاحها على العالم وعطائها وإيثارها وخيريتها وتفكيرها في غيرها، على قدر ما تجني أكثر، إنها تأخذ بالأسباب عبادة لرب العباد فتحسن في عالم الترتيب، ولكنها تعامل مسبب وخالق الأسباب وتؤمن بالتدبير، وهنا يكمن سر الفوز والفلاح.
وفي مقال قادم بإذن الله سنبحث في الأسباب الحقيقية القادرة على تحقيق سعادة الإنسان، وهل أي من أساسيات الحياة أو كمالياتها يمكنها المساهمة في صنع ذلك أم أن هناك غيرهما؟