ستستغني مدينة حلب السورية في الأشهر القليلة المقبلة عن أكثر من 500 مؤذن تم اعتبارهم مزعجين بأصواتهم التي وصفتها مديرية الأوقاف في المدينة بنشاز وقبيحة، لذلك فهي تنوي استبدالهم بمن سيفوزون في أول مسابقة من نوعها ستجرى لاختيار أصحاب الأصوات الجميلة في المدينة المعروفة منذ مئات السنين بالطرب الشرقي الأصيل؛ وشرح الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني، وهو مدير مديرية الأوقاف بحلب، عبر الهاتف مع "العربية.نت" ليل الأحد 3-10-2010 أن المسابقة هي فكرته التي عمل على تنظيمها منذ شهر، ويقول الدكتور محمود: (ستبدأ لجان عدة من "السمّيعة" تضم كل منها 3 حكام خبراء بالموسيقى والطرب والصوت، باختيار الأفضل والأجمل بين الأصوات) ويضيف:(إن فكرة المسابقة لم تأته – فقط - بعد شكاوى تقدم بها السكان المنزعجين من أصحاب الأصوات النشاز من المؤذنين، فأنا أول المنزعجين منها بالأساس، لذلك سارعت لإنقاذ هذه الوظيفة الدينية الحميدة وإعادتها إلى القصد الأساسي منها، وهو الدعوة إلى الصلاة بطريقة محببة ومنسجمة مع الذوق العام، لا المنفرة، وهي في الأساس مستندة إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي اختار بلالاً الحبشي، رضي الله عنه، لأنه كان أجمل وأقوى صوتاً من سواه).
عندما قرأت هذا الخبر تذكرت صوت المؤذن لصلاة الفجر قرب بيتي القديم، كان أجشاً خشناً وأما طريقته في الأداء فوقعها في الأذن كوقع العصي المؤلمة على الجسد الغض، ولذلك حمدت ربي عندما انتقلت للعيش في جدة، لأن الطريقة التي يتم الأذان بها تهوّن كثيرا من عدم اختيار الأصوات، رغم ظهور مشكلة من نوع آخر وهي اختلاط أصوات المؤذنين بعضها ببعض مما يجعل الإنسان في حالة من عدم الانسجام إضافة إلى حيرته: مع أي المؤذنين يردّد، وذلك بسبب كثافة المساجد في الحي الذي كنت أقطن فيه، فلقد كان حول بيتي خمسة مساجد، في الوقت الذي لا يوجد فيه أي نشاط للمسجد سوى الصلاة وبعض الدروس الدينية وفي الوقت نفسه الذي تختفي فيه من الحي أي فعالية شبابية كناد رياضي أو موسيقي.
مو.. سي.... قي!! والعياذ بالله!! الموسيقى محرمة شرعا ولكن التحريم وسيلة لتنفير الناس من الدين أو لزيادة سطوة الفقيه؛ خصوصاً على الشاب الذي لا تراه إلا واضعاً سماعات في أذنيه لأنه لا يريد أن يسمع نصائح أكثر.
شكراً للأخ خالد المحاميد الذي تابع برنامج الشريعة والحياة وأوضح في مقالة كتبها في صحيفة الوطن رأي الدكتور القرضاوي بأن صوت المرأة في الغناء ليس حراماً ما لم يهيّج شهوة أو يثير غريزة، وضرب مثلا بالمغنيات المعروفات في العهد النبوي كأرنب وزينب وحمامة وغيرهن، ومثّل من العصر الحديث بأغنية (حديث الروح) لأم كلثوم، وهي من أجمل أشعار الفيلسوف الحكيم إقبال، وكنت ذكرت في إحدى مقالاتي الفنانة الموريتانية المعلومة بنت الميداح بأصالتها وجمالها الطبيعي واحترامها لنفسها بعيدا عن الابتذال، وفي مثل أغانيها وأغاني فيروز يجد الشباب فناً يجنّبه الإرهاب والعنف، أما إذا حرّمنا عليه كل شيء فقد ساوينا الفنانات المحترمات بمطربات السرير أو مغنيّات/مغنجّات/ملمّعات الأرضيات بلباسهن العاري من اللباس!
الصوت الجميل هبة من الله سبحانه، وقد أوتي سيدنا داود من حسن الصوت ما كان يجعل الجبال والطيور تردد معه مزاميره، وقد عرفت بعض الغربيين الذين أعلنوا إسلامهم بعدما سمعوا الأذان الجميل في بلاد مسلمة، فالفطرة البشرية تعشق الجمال وعندما يلامس الصوت المؤثر قاع النفس فإنها لا بد أن تستجيب.
وإذا كانت الموسيقى تزيد من جمال الأغنية فإن الصوت البشري الموهوب لا تضاهيه أي آلة موسيقية في التأثير، ولذلك اهتم الغربيون بالأصوات سواء كانت جماعية كالكورال أو منفردة كالسبرانو، إضافة إلى الأوبرا، وكنت قد تابعت على قناة MBC4 برنامج America got talent حين ظهرت سيدة في الثلاثينات من عمرها نجت من السرطان وتؤدي الأوبرا بطريقة أذهلت الحضور والمحكمين الثلاثة الذين صفقوا لها وقوفاً، أما الشاب الذي نال جائزة البرنامج فقد أذهلني عندما سمعت صوته لأول مرة حتى إني شعرت برغبة عارمة في البكاء، وهي نفس العبارة التي قالها له المحكّم البريطاني الصارم في حلقة تالية بأن كل من يسمعه يغالب نفسه كي لا يبكي؛ فسبحان الله المعطي الوهاب، ولله درّ من عمل بالحديث: (إن الله يحب أن يظهر أثر نعمته على عبده)، فكيف بمن يستغل نعمة الله للدعوة إلى الله؟
عودة إلى مدير أوقاف حلب فقد قال:(رفع الأذان لا يستغرق عادة أكثر من 5 دقائق، لكنه يجب أن يرفعه 5 مرات في اليوم، من الفجر حتى العشاء، علماً يأن لكل أذان مقام موسيقي معين، لذلك يجب أن يكون صاحب الصوت الجميل ملماً بالإلقاء المقامي، وطريقة انسجامه مع سمع صاحب الذوق الرفيع) فعسى أن يصبح هذا الرقي في الدعوة للصلاة نموذجاً يحتذى في باقي المدن العربية.
ختاما لا بد من التأكيد على دور الفضائيات كما هو دور المدارس في صقل الذوق العربي، وقد تابعت برنامجاً جميلاً على قناة الشارقة في رمضان بعنوان (منشد الشارقة) وفيه من الأصالة ما يجعله موضع ثناء سواء من ناحية المحكمين المعروفين كمنشدين مخضرمين أو من ناحية المذيع الناجح، وأما برامج الغناء على القنوات الأخرى فهي تعتمد فكرة التقليد لذلك تبقى كالغراب الذي قلّد مشية الحمامة؛ وإذا كنا نعمل من أجل النهضة في المجالات العلمية، فلنسمح للشباب بأن يرفهوا أنفسهم ساعة فساعة لأن القلوب إذا كلّت عميت كما في الحديث الشريف، ولذا لا بد من حصة موسيقى – على الأقل - في الأسبوع لعلها تمنح أولادنا مناعة ضد الإسفاف الممجوج الذي جعل الذائقة العربية في خبر كان!