التمييز ضد البشر لا يولد معنا، بل يكتسب من الوسط التربوي المحيط، وهذا يشمل التمييز العنصري والطبقي والطائفي بطبيعة الحال، فالطفل وإن كانت تصدر منه بعض التصرفات الأنانية تجاه غيره أحيانا؛ إلا أنها لا تبرر من قبله بمبرر تفوّقي تجاهه، بل أقصى تبريراته عند صدور مثل ذلك عنه لا تتجاوز المنطلقات المشعرة له بالحب والاستقلال والملكية.

أن يتصرّف الطفل بعنصرية أو طائفية فذلك لا يعني إلا نشوءه في بيئة تسبّبت في انعكاس ذلك عليه؛ وذلك لا يعني بالضرورة أن يلقّن الطفل تلك الأدبيات التمييزية بشكل مباشر، بل هو قادر على التقاطها من تصرفات من حوله مهما بدت سطحية وعابرة. وهذا ما يجعل عنصرية الكبار وطائفيتهم جناية مركبة، حيث إنها لا تلقي بآثارها على من يتعرّض إلى ممارساتهم بشكل مباشر فقط، بل تتعداه إلى التسبّب بنشوء من يصبح في موقع الاقتداء بهم على الرؤية التمييزية نفسها وما ينتج عن ذلك من ممارسات موجهة إلى ضحايا جدد لذلك التمييز.

مثل هذا يلقي علينا مسؤولية مضاعفة في تحصين أطفالنا من النشوء على هذه الأدبيات التي لا ينتج عنها إلا المزيد من تكريس صور التجني، بل ربما العنف أحيانا. وقد لا يتأتى مثل هذا التحصين من خلال الامتناع عن تلقين الأطفال أدبيات كهذه فقط، بل ينبغي التنبه من توجيه الرسائل العنصرية والطائفية - ولو بدلالات إيحائية - تجاه الآخرين في حضور أولئك الأطفال، كما أنه من المهمّ التأكيد على عدم إحداث ما يوحي بتقبل مثل هذه السلوكيات ولو بابتسامة أو نظرة متجاوبة معها.

من المؤسف أن يغفل الآباء والمربّون عن ذلك أو أن ينظروا إليه باستهانة، كما أنه من المؤسف أكثر لو نتج عن مثل تلك الغفلة إيذاء مشاعر طفل لم يختر عرقه أو ديانته على يد أقران من المفترض أن يشاركوه اللعب والأمل.

فآثار مثل ذلك على نفسية الأطفال غالبا ما تكون من تلك البصمات المحفورة عميقا حتى بعد أن يكبروا، وكثيرا ما تؤدي إلى مشكلات نفسية وسلوكية لا تغادرهم مهما مضوا في رحلة الحياة. بل قد تحدث مشاعر قطيعة بينهم وبين حاضناتهم الاجتماعية لا يسهل وصلها أو تفادي تداعياتها التي قد تصل إلى التورّط في الفشل أو الجريمة.

ما دعاني للتطرق إلى هذه المقدمة الطويلة، هو ما نمرّ به الآن من أحداث سياسية معقدة تعصف بالمنطقة بكاملها، ودور العامل الطائفي في هذا التعقيد، مع غيره من العوامل الأخرى. فمن البديهي أن تنعكس مثل هذه الأحداث على أحاديث الكبار في مجالسهم، ومن المتوقع أن يلقي ذلك بظلاله على وعي الأطفال المراقبين لمثل هذه الأحاديث، خصوصا مع تقنية هذا العصر الذي أدى إلى هذا التداخل العجيب بين الأجيال وانفتاح الطفل على اهتمامات الكبار بشكل أسهل من قبل، مع صعوبة في التحكم في ذلك الانفتاح أو ترشيده.

وربما سمع بعضنا قصصا تروي بعض تجاوزات الأطفال الطائفية والعنصرية على بعضهم بطريقة لا يسهل استيعاب حدوثها في ذلك العالم الملائكي، يؤلمني وربما يؤلم غيري حدوث مثل هذه القصص، كما يدفعني ذلك للتساؤل عن دور التربويين في التنبيه على مخاطر غفلة الكبار عن تنامي مثل هذه المظاهر، والعمل على التحذير من عواقبها، واقتراح الحلول لمواجهتها.

ليس من حقّنا أن نفرض نقائص عالمنا عليهم، بل إن واجبنا إعدادهم لصنع عالم أجمل، علينا أن نعلّم كل طفل - تحملنا أمانة ومسؤولية تنشئته - على المؤاخاة والعدل بينه وبين سائر البشر، والانفتاح عليهم بمحبة ورقي، متماهين في ذلك مع ما يحث عليه ديننا الذي علمنا أن الناس خلقوا سواسية كأسنان المشط، ومقتدين فيه بنبيٍّ كريم ما بعث إلا ليتمم مكارم الأخلاق.