الإنسان والإشاعة في تداخل سيّال مع الطبيعة البشرية منذ أن عرف وجوده وتنامت معارفه. إلا أن الإشاعة تنمو في المياه الضحلة من المجتمعات ذات الضعف في الوعي والتفكير والدهاء والمعرفة، والتي تعتمد اعتمادا كبيرا على العقيدة والشرف لتؤتي أكلها بحسب ما يرى صناعها. فإذا ما وجدت مجتمعا تتنامى فيه الإشاعة بشكل يفقد الرسوخ على بر المعرفة فاعلم أنك على ضفاف مجتمع متهالك.
وبما أننا في زمن مفصلي من تاريخ تطور الأمم وصناعة الحضارات، فلا بد من فهم كنه الإشاعة وصناعتها ومدارجها، وبِركها ومستنقعاتها، وأساليب تكاثرها، لا سيما ونحن بين مواقع التواصل الاجتماعي والمعلومات الإلكترونية والمتغيرات السياسية والاجتماعية، لا سيما أننا حديثو العهد بهذا الانفجار المعرفي والتقني. ولعل علم الإشاعة قد استفحل في يومنا هذا مع تطور علم التسويق. فهناك تسويق لسياسات وساسة، وهناك تسويق لأفكار ومعتقدات، وهناك تسويق لشخصيات ونجوم ومفكرين، ولهذا استخدمت شبكات التواصل أسلوبا كبيرا في تسويق هذه المحاور وتسويق الأفكار دون هوادة. وتعرف الإشاعة بأنها: "وضع كيان أو شخص مهم + كيان غامض = إشاعة". وبهذا يتم الترويج والانتشار والتداول.
والإشاعة منها ما يستخدم للهدم مثل ترويج الأفكار والعقائد والسياسات الهدامة التي تخدم بالضرورة صانعها بالتحديد، وغالبا ما تكون مدمرة للذوات من الداخل في أغلب الأحيان، وقد استخدمها الألمان ضد قوات المحور وأنتجت نجاحا كبيرا لصناعها.
وفي واقعة ذكرها سمو الأمير طلال بن عبدالعزيز في كتابه عن والده المغفور له الملك عبدالعزيز، طيب الله ثراه، أنه في إحدى الوقائع الحربية ربما أصابه شيء من التعب فطلب من رجاله أن يزوجوه، فزوجوه وأطلقت الدفوف عقائرها وانتشر بين الناس زواج الملك عبدالعزيز وسادت الأفراح، فانتشر الخبر في جيوش العدو مما نهض بجيش جلالته وانكسار جيوش الأعداء.
أما إشاعة التسويق فكما قال أحد المشاهير؛ إن مدير تسويقه طلب منه أن يظهر بشكل مسترخ وهو يستلم الجائزة، كي يطلق إشاعة أنه توفي وهو يستلم الجائزة. وحين سأله الأول أجابه الأخير أن: الخبر السلبي ينتشر أكثر من الخبر الإيجابي. ومن هنا يتم التسويق لهذا الرمز وجائزته كونه توفي فجأة أكثر من كونه استلم جائزة!
ولذلك فخبراء التسويق يفقهون شأن الشائعة ووقعها على النفوس، خاصة إذا كانت نفوس متدنية الذكاء، فقد ربط علماء النفس بين انتشار الشائعة والترويج لها وبين الذكاء رباطا وثيقا. والشائعات نوعان: الشائعة السوداء وهي ذلك النوع الذي يعتمد على جزء من الحقيقة في توقيت معين، كارتفاع ضحايا تسمم أو حريق أو حادثة لإدانة الدولة على سبيل المثال. والشائعة الرمادية وهي التي تحتمل التصديق أو التكذيب مثل موت نجم أو مفكر أو سياسي على سبيل المثال.
ويرجع علماء النفس أن (سورس) أو جوهر الشائعة يرجع إلى نقيصة في التكوين النفسي لمروجها بأنها تعوضه هذه النقيصة في جعله مهما عند نقل الشائعة ولفت الانتباه إليه ووضعه في موضع الأهمية، وهذا ما نلاحظه في تسابق (المنشتات) في الصحف والقنوات بما يسمونه السبق الصحفي دون تدقيق للأسف في سبيل تحقيق هذا السبق على حساب من يتلقونه وعلى حساب الدولة أيضا! وفي المقابل هناك عقول غير فاحصة وناقدة ومنتقية للمعلومات، فتنساق وراء كلام يثبت عدم صحته مؤخرا؛ ولكن بعد أن يحقق الهدف لصنّاعه عند بدء إطلاقه، وبطبيعة الحال تحدث أضرار سياسية ونفسية واجتماعية على من أطلقت ضدهم هذه الشائعات!
لنا في الإشاعات التي أطلقت أيام الثورات العربية خير دليل على هذا التهافت على نشر وتلقي الأخبار والإشاعات، لأننا - ولله الحمد - صادقون وطيبون وحديثو العهد بالتقنية الإلكترونية ومعتادون على الصحافة المكتوبة والرسمية حتى الماضي القريب، نعتمد عليها كل الاعتماد، وهي صحافة وكلمات وأخبار تخضع لأسس المصداقية الإعلامية عبر أجهزة تدقق وتوضح وتستبين، وعندما جاءت شبكات التواصل لم نستطع أن نفرق بين من يكتب عبر مؤسسة مسؤولة وبين من يحرك أصابعه على أزرار جهازه لينثر أخبارا دون أدنى مسؤولية وهنا تكمن الكارثة! فهل الشائعة صناعة بلا أساس أم مثلما يقول المثل الشعبي: "لا دخان بلا نار"؟
يقول أحد خبراء النفس والتحليل النفسي: إنه "لا توجد شائعة بالصدفة، وإنما تستخدم لإسقاط مشاعر على شخص معين mechanism of Defense" حتى يكون صانع الشائعة مسيطرا على من حوله أو من أراد السيطرة عليهم. وتسمى صناعة الشائعة في علم النفس (حرفية صناعة التشويش أو التشويه)؛ فالإنسان السويّ هو من يسأل عن مصدر الخبر وتأكد من مصادره الموثوق بها، أما "الإنسان غير السويّ فيصدق الخبر لأنه مشوش أو مشوه نفسيا"، كما أن صناع الشائعات ومروجيها وصفوا باللاأخلاقيين أيضا، لأنها تعتمد على الكذب والإيذاء وتحقيق مكاسب دون مراعات آثارها. أفلا نقف عند قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين). سبحان الله! لم يدع لنا ديننا صغيرة أو كبيرة إلا ودونها في دستور إلهي، إلا أننا لا نتدبر كلمات ربي!
أخطر الشائعات في يومنا هذا هو ما يبثه مدونون غير مسؤولين على شبكات التواصل من كل حدب وصوب، وبما يعمل على خلخلة الوعي والضرر بالوطن والدولة والاستقرار في غلاف مزيف من التوعية وحرية نشر المعلومة. وما نشهده على الساحة العربية ليس إلا نتاج هذا الخلل اللاأخلاقي على الإطلاق، ولكن وبحسب ما كان يقول لي والدي - رحمه الله -: "إذا كان المتكلم خبل فالمستمع واع".. فهذا ديننا وهذا تراثنا وهذا وعينا يُزيف ويُنسف إن جاز التعبير!
وعليه يتوجب إقامة مؤسسة كبيرة بقدر المعلومات الإلكترونية والتواصل الاجتماعي حتى لو استوجب الأمر وضع وزارة خاصة لهذا السلاح ذي الحدين، كما أنه يجب وضع صف من الشباب الواعي في أولى درجات تبين الرؤية والتعامل مع هذه الآلة كي نحمي وعينا ونحمي أوطاننا.