كتب أستاذنا الدكتور سالم سحاب مقالاً بعنوان (المرأة كاشيراً: بين معذر وموضح) في زاويته المميزة بصحيفة (المدينة) معلقاً على ما دار من سجال بين الزميلين جمال خاشقي والدكتور محمد السعيدي؛ حيال المعركة المجتمعية التي لا تزال أوارها مستعرة، بشأن عمل المرأة في وظيفة (الكاشير) بمراكز التسويق الكبرى، وانتهى الدكتور سحاب إلى موافقته لكلا الزميلين الخلوقين لأن ما طرحاه يحتاجه المجتمع بشكل كبير.

السجال الذي دار؛ نموذجٌ خلاّق وصحي بين نخب وطنية تدلي برأيها في رقي وتحضر، واستشعار كامل بدورها الوطني واحترام لافت لوجهات النظر، وأشعر-شخصياً- أنهما قدما أنموذجاً مثالياً لما نودّ أن يكونه الحوار بين الأطراف المختلفة فكرياّ، ويجمعها همّ ومصلحة الوطن الذي نعيش فيه.

أحاول أن ألتقط أهمّ ما قالاه لمحدودية الزاوية، فزميلنا الكبير جمال خاشقجي وجّه كلامه للمعترضين من أحبتنا الشرعيين-في مجموعة القاسم البريدية- قائلاً: "لا تقفوا في وجه قوة التاريخ، فهي لا تتوقف لأحد، ولكن انثروا على جوانبها الفضائل. المرأة اليوم لم تعد تلك التي كانت تقبع في البيت وتنتظر ربّ الأسرة آتياً بـ (زنبيله) الذي حمل فيه حاجيات البيت البسيطة من الدكان الصغير في ركن الحارة، بل باتت جزءاً من بحر الرأسمالية هذا، وأنها رقم إنتاجي. من يستهلك لا بدّ أن ينتج، هذه هي القاعدة، وإذا استهلكت المرأة ولم تنتج غضبت أيها الرجل وصرخت فيها: لم أعد قادراً على ملاحقة طلباتك".

وتابع هذا الإعلامي -المثير للجدل أينما حلّ- موجهاً كلامه لبعض الشرعيين: "أخي الكريم: تتحدث عن فلسفة العمل، وأضراره على الأسرة، وكتاب الحضارة، ومسائل معرفية نظرية وتطبيقية، لتعزيز نظرتك أن المرأة لو تفرغت لبيتها لكان أبرك لها ولأسرتها.. هب أنني وافقتك في ذلك، هل نستطيع أن نعيد العجلة إلى الوراء؟ هل نعود إلى أحمد جمال -رحمه الله- ونناشد معه المرأة السعودية (مكانك تحمدي)؟ امرأة ذلك اليوم لم تسمع له فهل ستسمعنا امرأة اليوم؟! ومقولة إن المرأة مكانها البيت لم تعد في سجل الحياة، المرأة اليوم المتعلمة، وذات الوظيفة هي العروس المفضلة لغالب السعوديين. هل ثمة من يختلف معي في هذه الحقيقة؟.. لم يحصل ذلك بفضل (فتوى) من شيخ متفتح أعطى المرأة حقها، ولا بقرار حكومي. وإنما بفضل اقتصاد السوق".

وبادر الشيخ الصديق د. محمد السعيدي بالتعليق على زميلنا بقوله: "أردّ على الأخ جمال خاشقجي التحية بأحسن منها، فعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ثم أشكره كما شكرني، وقد أعجبني في جوابه أنه يستخدم أسلوباً ممتازاً يعتمد فيه على إبراز احتمالية صواب من يخالفه، وبأسلوبه هذا أؤكد أن الحوار بيننا سيكون مثمراً (..) ليس الخلاف بيننا في المرأة التي تعمل لتؤدي دوراً وطنياً ودينياً في عملية البناء والتنمية، وإن كنا قد نختلف في الأسلوب الأمثل لذلك العمل؛ بل عمل المرأة الذي نناقشه هذه الأيام هو طفح جلدي أبرزته مشاكل معوية إن استمرت الغفلة عنها فستتحول إلى (ديسنتاريا) خطيرة جداً لن يكون الشفاء منها يسيراً في مستقبل الأيام (..). عمل المرأة في هذه الأيام هو نضوح لمشكلة اجتماعية كبيرة ينبغي أن نقف جميعاً وقفة قوية لحلها، دون أن ننظر إليها بسطحية، ودون أن نعتقد أن مشكلتنا هي الصراع بين الفكر المشايخي والفكر المتحرر، أو أن خلافنا فيها هو خلاف فقهي حول الاختلاط أو سدّ الذرائع، إن المشكلة أكبر من ذلك بكثير، وآمل أن نتضامن جميعاً وننسى خلافاتنا كي نقضي على هذا المرض من داخل الأمعاء، بدلاً من الاستمرار في حكّ هذا الطفح الجلدي حيث لن ينتج عنه إلا ظهور الدم وتفاقم الالتهاب والدخول في مرض آخر مؤلم ومقزز أيضاً".

انتهى زميلنا الدكتور السعيدي إلى أن: "الأجدر بوزارة الشؤون الاجتماعية أن تتلقف هؤلاء النساء المتقدمات لهذه الوظائف وأمثالهن ممن لم تتقدم، وتقف مع كل واحدة منهن لرفع الظلم عنها وحمايتها من أية تبعات تلحق كي ترجع الحق إلى نصابه، ومن ثمّ استحداث نظام للحقوق الاجتماعية مستمد من أبواب النفقات في كتب الفقه الإسلامي، يحدد جهة المسؤولية المالية والتربوية في الأسرة والبدائل عنها، ويلزم الوزارة بالوقوف وراء تطبيق هذا النظام وتتكفل برفع الدعاوى القضائية اللازمة على المتخلف عن تطبيقه".

الدكتور السعيدي طرح موضوع العمل عن بعد، وقال: "لماذا تهمل الصحافة بل حتى المسؤولون في وزارة العمل هذا الملف الذي يوفر أربعة ملايين فرصة عمل للمرأة، بدلا من التناطح على وظيفة (كاشير) التي لو جمعناها لم تك سوى بضع عشرات، فيما الصحافة تهلل لهذه الوظائف وتدبج لها التغطيات تلو التغطيات".

بين هاتين الرؤيتين اللتين ترومان حلاً حقيقياً لواقع المرأة الجديد، ثمة رؤى كثيرة تتفق وتختلف معهما، غير أن مشكلة (المرأة الكاشير) رأس صغير من رؤوس جبل الجليد في ملف المرأة المليء بالقضايا التي لا تنتهي، بين مبادرات تنبجس من صميم الحاجة التي باتت المرأة تعيشها، وبين ممانعات لا تقدم البدائل، إنما الممانعة لمجرد الشبهة بأنها داخلة في عملية تغريب وإخراج للمرأة من بيتها، بنظرات مستريبة، وهي ترى تهليل الصحافة وكتابها بشكل مريب لقضية صغيرة لا ترقى إلى صميم مشكلات المرأة.

في تصوري؛ أن النقاش الحرّ بين المختلفين سيوصل وجهات النظر والتحفظات بشكل كامل، فأمثال هذه النقاشات التي تضع نصب العين مصلحة الوطن هو ما نحتاجه اليوم، بدلاً من تأجيج العداوات وتصفية الحسابات والسخرية من المعترضين، ويقيناً أن أولئك الذين يؤدلجون قضايا المرأة ليقتاتوا عليها؛ هم أول من يسيء لقضيتها. تحية للزميلين الكريمين على حوار كهذا، وسأدلي برأيي وتعليق في موضوع (المرأة الكاشير) في مقالة الأسبوع المقبل.