اللعنة الكبرى التي ابتليت بها في حياتي أن لي أما أديبة وبعثية حقيقية، ولم يكن ممكنا للقدر أن يعاقبني بأقسى من هذا.
أمي التي حملتني منذ طفولتي على قراءة قصائد محمود درويش وبدر شاكر السياب وسميح القاسم فيما كان الجيران يدبكون على أغاني إبراهيم صقر وعلي الديك وسارية السواس مهدت لفصامي المبكر عن قطيع "الواوا" المدجن.
لم تستقبل أمي في بيتنا جمعات النميمة النسائية، لم تذهب إليها، ولم تعلمني أبجدية المراءاة الاجتماعية ولا الدبلوماسية المطلوبة للتواؤم مع معطيات عصر فقد براءاته منذ حين.
"كوني صادقة، لا تتخلي عن مبادئك من أجل المال، اقرئي وتسلحي بالعلم والعروبة"، هذا ما قالته السيدة الرائعة التي دفعت بي دون أن تقصد إلى الهاوية كما دُفِع حنظلة ناجي العلي إلى الشتات حين تكلم.
كانت جارتنا أم إبراهيم مشغولة بمراقبة بنت الجيران المطَلقة حين كانت أمي تقرأ دون ملل جبرا إبراهيم جبرا وعبدالرحمن منيف وغادة السمان والنقد الأدبي الحديث لأشعار مي زيادة، مانعة عني أدنى فرصة لامتلاك حجارة أخبئها لمريم المجدلية، أو مشط أسرح به شعر باندورا حين تفتح صندوقها للشر.
"علقوني على جدائل نخلة واشنقوني فلن أخون النخلة"، وهكذا قضيت عمري معلقة على النخلة الأبدية لمبادئي، إلا أنهم لم يشنقوني وتركوني حية أحمل قرطاس شاعرنا المتنبي "عش عزيزا أو مت وأنت كريم.. بين طعن القنا وخفق البنود".
أثناء دراستي الأدب الفرنسي في جامعة دمشق عمل القدر ضدي مجددا كما فعلت أمي، وحظيت بأساتذة طوباويين "واهمين" مثلي، يسكنون في الغرفة العُلوية لروايات بلزاك وفيكتور هوغو ومسرحيات موليير وجان جينيه ويحاربون طواحين الهواء، تماما كما فعل "دون كيخوت" ثربانتس، ومجددا وقعت في الفخ، وصدقت أن العالم متاح للأنبياء والحالمين ولأساتذتي الذين مات معظمهم فقيرا وشريفا.
وقعت عن ظهر النخلة لأول مرة حين بدأت في العمل كصحفية ثم كمذيعة في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، حيث كان الفساد ينخر روح المكان وأرواح السوريين أيضا، وكان مطلوبا امتلاك ناصية النفاق للحاق بركب المهللين لطقوس التخريب العلنية في دولة الفساد الجماعي، وكم كانت السقطة مؤلمة حين تقدمت للمسابقة الرسمية للمذيعين، ونجحت فيها بتفوق باعتراف أعضاء لجنة التحكيم الذين باركوا لي نجاحي ومن بينهم المخرج السوري علاء الدين كوكش، لأكتشف بعدها أن اسمي استبدل باسم ابنة ضابط مخابرات كبير ما زالت تتمايل على إيقاع دماء السوريين النازفة إثر رصاص الإعلام السوري حتى اللحظة، ولأدرك أن دونكيخوت كان مجنونا حين حلم بانتصار الفضيلة.
صعدت على النخلة مجددا حين تبنى مدير الإذاعة الصحفي المخضرم المرحوم "أحمد عجاج" موهبتي وأتاح لي فرصة الخضوع لامتحان جديد أهلني كي أكون مذيعة في إذاعة دمشق ثم التلفزيون السوري لاحقا، وسقطت من جديد وبسرعة حين توفي أحمد عجاج نفسه من الحسرة بعد اتهامه بالفساد زورا لأن المافيا التي تصنع القرار في سورية قررت إحراق مراكبه ولأن مذيعا أميا مدعوما من قبل هذه المافيا نفسها قرر أن يأخذ مكانه.
نهضت من كبوتي مرة أخرى واعتليت جذع نخلتي بعد فوزي بالجائزة البرونزية في مهرجان القاهرة الإذاعي والتلفزيوني عن برنامج يتناول المبدع المسرحي الكبير سعدالله ونوس، وبعد شهادات وأوسمة كثيرة كرمني بها مبدعون سوريون أمثال محمد الماغوط، كوليت خوري، وممدوح عدوان، واعتقدت لفترة أن ما علمتني إياه أمي وأساتذتي في الجامعة بعدها لم يكن وهما ولا جنونا وأن عبارة "لا يصح إلا الصحيح" ليست مجرد هلوسات أدبية منفصمة عن الواقع. هذه النشوة بانتصار العدالة لم تدم طويلا، فكما سقط ربيع دمشق الذي حلمت به مع الأستاذ ميشيل كيلو وغيره من السوريين ممن اعتقدوا للحظات أن القائد الشاب بشار الأسد جاد في التغيير والإصلاح ومكافحة الفساد وإطلاق الحريات من سجنها وتطبيق جملة الشعارات الرنانة التي أتحفنا بها في خطابه الأول بعد أدائه اليمين الدستوري المعدل قسرا كي يلائم قياسه الفتي، سقطتُ أنا ونخلتي وبقية السوريين في مستنقع الخيبات.
أعترف أنني استبشرت خيرا عند مجيء القائد الشاب إلى سدة الحكم، وعشت أنا وغيري من الصحفيين مرحلة انفتاح إعلامي نسبي ما لبثت أن انكمشت بعد عام واحد، لتعود كل مفاصل الدولة إلى بيت الطاعة المسيطر عليه من قبل الحرس القديم الجديد، وهكذا ببساطة أصبح متاحا من جديد أن يتهجم وزير إعلام، مدعوم كالمعتاد من المخابرات السورية، على صحفي متميز، مهددا إياه علنا بإغلاق جريدته لأنها تناولت ملفا عن الفساد الاقتصادي، وأن يتم اختيار ابن أخ وزير إعلام آخر كي يكون مراسلا للتلفزيون السوري وناطقا باسم السوريين الذين أشبعهم هو وعمه بكتابة التقارير الأمنية الجائرة.
كان السقوط حرا هذه المرة، فقد اعتادت مفاصلي على الحركة اللولبية صعودا وهبوطا، وحدها روحي أصيبت بتمزقات عضلية مزمنة.
ليس ممكنا الحديث عن فساد معظم رجال الدولة ومؤسساتها وأجهزتها الأمنية، دون الحديث عن الفساد القيمي الذي استشرى بين السوريين جميعا، حيث لم يكن واقعيا أن تكون المبصر الوحيد بين مجموعة من العميان ولا نزيها بين مجموعة من اللصوص، وكي تتأقلم مع الوباء عليك أن تستنسخ من روحك أشكالا جديدة مطاطة قابلة للتمدد أيضا على قياس دولة "البعث الأسدي" أو أن تختار اللجوء إلى مشفى المجانين بعيدا عن عقلاء ولصوص القطيع المدجن.
كانت الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون في سورية وكرا للفساد، حيث تشكلت كائنات جديدة مستنسخة، مشوهة، محاصرة بعاهاتها، ومحكومة برغبتها في التهام بعضها عند أول جوع محدق، هذه الكائنات تكاثرت وعاشت وازدهرت في هيئات الإعلام وباقي المؤسسات الثقافية والحكومية بداية، ثم في باقي الأماكن والأشياء والأفكار وحتى المدارس والجامعات والقضاء والهواء فيما بعد، وكنا نحن الأصحاء نسبيا نراقب عملية المسخ ثم نفقد شيئا فشيئا مقدرتنا على ملاحظة نتوءات أرواحنا التي بدأت بالتحول.
بعد أن أصيبت عضلاتي بالتمزق نتيجة النتوءات أصبحت أواظب على تعاطي المسكنات الروحية التي تتيح استمراري في رياضة النخيل دون ألم، واخترعت وسائل جديدة للهروب من الواقع وتحاشي الوقوع للمرة الألف من السماء السابعة للحلم.
أحرقت كتب أفلاطون والمدينة الفاضلة وكتب والدتي المثالية، وأغرقت في ما بقي من نهر بردى كل ما قرأته قبل وفي وبعد الجامعة، من نجيب محفوظ وجابريل جارسيا ماركيز وكازانتزاكس وصولا إلى لطفي زيدان وأورهان باموق، وأقنعت نفسي بأني "سطحية ومنافقة وعاقلة"، إلا أن نخلتي أبت إلا أن تشرئب من جديد بعد بدء الثورة السورية، ورغم محاولاتي لقمع عصيانها وجدتني أقف على رأسها مجددا، وحول عنقي حبل مشنقة يوشك على خنقي، فككته وهربت من سجاني إلى فرنسا حاملة نخلتي معي، وعلى ضفاف نهر السين الجميل كان تمثال الحرية يبتسم لي بصمت مرير، وعلى خده دمعة خجولة، كان حبل المشنقة نفسه يلتف حول عنقه، أنا وهو بكينا سويا وتعاهدنا ألا نخون النخلة حتى لو اعتبرتها أمي نفسها خيانة.