مارس الإنسان منذ فجر التاريخ "العبودية" بأشكال متعددة، منها ما يتعلق بالتسخير العملي، ومنها ما يتعلق بالتجارة والاستغلال الجنسي، ومنها ما يتعلق بالتربية من خلال شراء الأطفال الرضّع المسروقين من والديهم الأصليين لتبنيهم وإخفاء الحقيقة عنهم، وقد مورست هذه السلوكيات في كثير من المجتمعات منذ مئات القرون.

واقترنت العبودية بالظلم بالوحشية والعنف وعدم الاكتراث بإنسانية الإنسان وكرامته، وبرزت هذه الظاهرة بجلاء في تجارة "الرقيق" التي تشير إلى حرمان اختطاف الأفراد وحرمانهم من حريتهم الشخصية، وإجبارهم على أعمال قاسية ضد إرادتهم، سواء من وقت القبض عليهم أو وقت ميلادهم أو شرائهم. وهذا ما ألمحت إليه أدبيات الاعتذار الأميركي الشهير، قبل نحو سبع سنوات، حين قدمت الولايات المتحدة من خلال مجلس الشيوخ اعتذارها الشهير للأميركيين من أصول أفريقية عن الأذى الذي لحق بأسلافهم، كما قدمت الحكومة الكندية اعتذارا مشابها للمواطنين الكنديين الأصليين "الهنود الحمر" عن ممارسات الحكومة الكندية ضدهم وضد أطفالهم قبل قرن مضى بوضعهم في مدارس مخصصة للأقليات تشرف عليها الحكومة حرمت الأسر من أطفالها، كما قدمت أستراليا أيضا اعتذارها للأجيال "المسروقة" الذين انتزعوا عنوة من أحضان أسرهم من سكان أستراليا الأصليين الذين استوطنوا القارة قبل الوجود البريطاني.

في عام 2013 أنتج فيلم بريطاني-أميركي مشترك "12 عاما من العبودية" اقتبست قصته المؤلمة للغاية عن السيرة الذاتية للأميركي من أصول أفريقية "سليمان نورثوب" الذي نشرها بكتاب يحمل العنوان ذاته، وهو شخص حرّ يعمل عازفا لآلة الكمان، احتال عليه شخصان أبيضان واختطفاه فباعاه في سوق الرقيق الأميركي في العاصمة واشنطن عام1841، وقاسى أنواع العبودية لدى أحد الإقطاعيين البيض لاثني عشر عاما.

ويحمل كثير من الأميركيين السود والملونين شعورا بالتفرقة والعنصرية وتجاهل الحقوق الذي يظهر أحيانا في ممارسات الحكومة الفيدرالية، وقد برز هذا الأمر في حوادث مهمة عدة، منها الإهمال والتباطؤ في إنقاذ المناطق ذات الأغلبية السكانية السوداء خلال الكوارث الطبيعية، إضافة إلى حوادث القتل والعنف والعنصرية التي يمارسها بعض أفراد الأمن الأميركيين وتتصاعد حدتها بشكل ملحوظ بعد انتشارها إعلاميا.

الآن يحكم الولايات المتحدة رئيس تنتمي أصوله إلى عرقين، عرق والده الأسود وعرق أمه البيضاء، ولكن رغم ذلك ما زالت حوادث التفرقة العنصرية موجودة في ظل شعور تفوق اللون البشري الأبيض على اللون الأسود، ومن آخر هذه المؤشرات ما حدث قبل شهر تقريبا، إذ إن إعلاميا أمريكيا أبيض اسمه "رودنر فيكيروا" شبّه السيدة الأولى في الولايات المتحدة ميشيل أوباما بإحدى شخصيات فيلم "كوكب القردة"، وقد أقالته إدارة قناة (يونيفيزن) التلفزيونية فورا، رغم تقيمه اعتذاره وطلبه الصفح من السيدة الأولى، مؤكدا أنه صوّت لصالح زوجها باراك أوباما في الانتخابات.

إن هذه التجاوزات العنصرية المنافية لحقوق الإنسان تؤكد ظهور تركيبة الإنسان الغريزية بين فترة وأخرى، وبشكل متفاوت، بين الأفراد متى وجدت هذه التركيبة فرصة أو بيئة مناسبة للتعبير عن وجودها، حيث لا توجد حريّات مطلقة من جهة، ولا توجد قوانين فائقة الإحكام وخالية من التجاوز من جهة أخرى، وهذا ما يجعل بعض الأميركيين ينظرون إلى تمثال الحرية بأنه تمثال "مزيّف" لا يدل على الحرية بقدر دلالته على القهر والظلم، وحتما هنالك من راوده هذا الشعور داخل أميركا نفسها، ومنهم "سليمان نورثوب"!

وعلى المستوى العربي، وجدت نماذج عربية ذات دلالة على وجود العبودية منذ العصر الجاهلي، وما تبعه في العصور المتعاقبة التي كانت فيها الحرائر والأحرار يؤسرون ويختطفون، ويؤدي بهم الحال إلى "الامتلاك"، ويظهر من خلال بعض الوثائق التاريخية المتعلقة بالأحوال الشخصية في العالم العربي والإسلامي، كما يظهر في بعض الأعمال الأدبية، منها الرواية الشهيرة "قلب من بنقلان".

إلا أن عادة الاسترقاق والاستغلال الجنسي والقتل البشع وحز الرؤوس والمقابر الجماعية، قد عادت من جديد في مناطق الحروب والنزاعات، ولا سيما تلك التي تسيطر عليها الفصائل المسلحة والجماعات الإرهابية، وظهرت في العالم منذ عقود في أفريقيا وشرق أوروبا تؤكد وجود تبعات الحروب والتصفيات العرقية، إلا أن ما يحدث من وجود إعلانات صريحة خاصة ببيع "السبايا" من طوائف مختلفة في تلك المناطق في سورية والعراق، يجعل الأمر في غاية الغرابة، إذ إن الأمم المتحدة التي يحرّم ميثاقها الدولي هذه العادة، لم تحرّك ساكنا ولم تفعل شيئا يوحي بأنها تناضل من أجل المبادئ التي نادت بها ونشرتها، وأجبرت العالم على الخضوع لها على مدى عقود. وكأن معاناة "سليمان نورثوب" تعود من جديد، وإنْ بشكل غير درامي هذه المرة، لا يستلزم أن تنتهي القصة بحصول المسترقِّ على حريته. فإذا لم تقرر الأمم المتحدة أن تتدخل لحفظ كرامة هذا الإنسان وحريته، أليس الأحرى بها أن تعتذر؟!