ليس ممكنا أن تحظى محطة تلفزيونية بسبق أكثر إثارة مما فعلت القناة الثانية في التلفزيون الفرنسي الرسمي قبل أيام، كما أنه لن يكون متاحا بعد اللحظة أن يحلم صحفي بمنافسة ديفيد بوجاداس مقدم نشرة الساعة الثامنة مساء. بدا بوجاداس مشدوها أمام ضيفه في الحوار، ولو كنت مكانه لفعلت مثله..

في مسرحية "في انتظار غودو" الشهيرة للكاتب صموئيل بيكت التي عُدّت من أبرز أعمال تيار العبث الوجودي في القرن العشرين، يظهر البطلان المأزومان فلاديمير واستراجون وهما يتجاذبان حديثا عبثيا خاليا من أي منطق أو معنى أو رسالة مفهومة، كل منهما مسجون في عالمه الخاص المنفصل، يربط بينهما فقط لغوٌ شفهي وجودي يشبه حوار الطرشان، هدفه الوحيد تمضية الوقت وقتل الملل وتخفيف الثقل الغليظ لحالة الانتظار لشخص أو شيء اسمه "جودو".

وفيما يربط فلاديمير حذاءه مرات عدة دون سبب منطقي، يبدل استراجون مكانه أيضا لمرات عدة دون سبب منطقي، وهكذا يستمر المشهد العبثي بالتكرار حد الملهاة، كما تستمر العبارات المكررة غير المتقاطعة في حالة هذيان تكاد توحي أن البطلين موجودان في مصح أمراض عقلية، مع اختلاف الأعراض ودرجة المرض لدى كل منهما. بوجاداس وبشار الأسد هما البطلان هذه المرة، وخشبة المسرح في مكان ما في دمشق.

يبدأ العرض بجملة لبوجاداس: "قسم كبير من الفرنسيين يرى أنك مسؤول عن الفوضى السائدة في سورية بسبب وحشية القمع الذي مورس خلال السنوات الأربع الماضية".

استراجون -الأسد- متحدثا مع نفسه: "كيف يمكن لحكومة أو رئيس مارسا الوحشية مع السكان.. وقتلوهم وواجهوا أكثر الدول قوة في العالم وبتمويل من دول الخليج.. كيف لرئيس كهذا أن يصمد لمدة أربع سنوات هل من الممكن أن تتمتع بدعم شعبك بينما تمارس الوحشية ضده.. أنا رئيس محبوب من شعبي"

فلاديمير: "في البداية.. خرج عشرات آلاف الناس إلى الشوارع. هل كانوا جميعا جهاديين؟!

استراجون يبدو ساهما ويهمس: "لا.. بالتأكيد.. لا. لكن من قتل أول رجل شرطة في اليوم السادس من بداية الصراع..؟ إنهم إرهابيون".

فلاديمير يربط حذاءه مجددا ويردد: "ربما كان هناك جهاديون أو إرهابيون.. لكن صحفيينا كانوا هناك عند بداية الصراع والتقوا كثيرا من الأشخاص الذين كانوا يقولون: نريد المزيد من الحرية والمزيد من الديمقراطية. لم يكن أولئك إرهابيون أو جهاديون".

ما تزال عينا استراجون معلقتين في الفراغ: "من المؤكد أن من حق أي شخص أن يطالب بالحرية.. لكنهم إرهابيون"..

ثم يبدل استراجون الأسد مكانه على الخشبة ويتابع: "حكومتكم الفرنسية ودول الخليج دعموا المعارضة المعتدلة.. أقصد الإرهابيين.. المعارضة المعتدلة أكلت قلب جندي سوري"!

فلاديمير يخلع حذاءه هذه المرة ويقول بصوت حزين: "الجيش السوري استخدم براميل متفجرة ضد المدنيين"؟!

يصمت استراجون للحظات ثم يكرر كمن يتدرب على أداء كلمات قصيدة: "لا أعرف معنى جملة براميل طائرة نحن نستخدم أسلحة دقيقة لقتل الإرهابيين".

فلاديمير يظهر صورة لبرميل متفجر ألقي على حلب من مروحية للجيش ويعرضها للجمهور.

تغرق عينا استراجون في ذكريات بعيدة.. يقف على كرسيه ثم يجلس مجددا: "هذه الصور من المريخ.. لقد صنعت السعودية مجسما لسورية هناك؟.. أنا أريد أن يحبني السوريون لا أن أقتلهم".

فلاديمير يحمل حذاءه في يده ويمسح عنه غبارا وهميا ثم يقذفه بوجه الجمهور الحائر: "لكنكم استخدمتم الكيماوي"؟!

يرفع استراجون يده اليمنى عاليا ثم يمط عنقه كمنتصر: "لسنا بحاجة لأسلحة كيميائية لدينا أسلحة أشد فتكا، الأسلحة الكيميائية غالية الثمن، ولا يمكن أن نهدرها لقتل المدنيين"، صمت للحظات ثم صراخ بصوت مرتفع: "فرنسا وأميركا ودول الخليج هم من قتلوا المدنيين في سورية بغاز السارين.. أطالب العدالة الدولية بالتحقيق".. صوت طائرات تحلق قريبا من المسرح واستراجون يجهش بالبكاء.

يقف فلاديمير ويضع يده على كتفه ويردد بصوت خافت: "هل لديكم أسرى فرنسيون في السجون"؟

استراجون: "ليس لدينا سجون في سورية ولا يوجد إيرانيون يقاتلون معنا، فقط لدينا حزب الله، حبيبنا".فلاديمير: "هل يخاف الشعب منك"؟

استراجون: "الشعب كله يحبني، أنا لطيف جدا، لا يمكن أن يخافوا مني، دول الخليج روجت لهذه الكذبة". يضحك بشكل هستيري، ما يدفع الجمهور إلى التصفيق. يصفق هو أيضا مهللا لنفسه!

فلاديمير خائفا: هل أنت ديموقراطي؟

استراجون يجفل كمن رأى شبحا: "كي تفهم ما هي الديموقراطية عليك أن تزور موسكو أولا، أنا ديموقراطي أكثر من هولاند الفاشل". يقف مرة أخرى ويتحدث إلى من بقي من الجمهور على قيد الحياة: "لدي شعبية أكثر من هولاند.. أنا لست طامعا في الكرسي لكن الشعب يحبسني رغما عني في القصر الجمهوري، حاولت الهروب والاستقالة، لقد منعوني".

فلاديمير بوجاداس يسقط على الأرض مصابا بنوبة قلبية مباغتة، استراجون الأسد يصفق وحيدا، المرأة الوحيدة التي بقيت حية بين جثث المتفرجين كانت تدفن جثة طفلها الرضيع.

تحت الأنقاض كان "جودو" يحاول الخروج.. وحدها الرصاصة الأخيرة كانت بحوزته. وما زال يحاول.

ملاحظة:

النوع: مسرح اللامعقول السوري

"الحوار بتصرف للضرورة المسرحية".

الموسيقى التصويرية: فرقة الطيران الحربي

البطولة: مئتا ألف شهيد سوري

الإخراج: البيت الأبيض وجولدامائير والفقيه. للحضور يرجى الحجز سلفا عبر مقابرنا المنتشرة في أرجاء الوطن السوري.

يمنع اصطحاب جثث الأطفال حرصا على المشاعر العامة.