رغم انغماسي في الشأن السياسي والعربي، ورغم أن السياسة قلبت حياتي رأسا على عقب، ما زلت أرسم سياساتي وفق شاعرية ملأى باليوتوبيا، وأعترف أن ولعي بعلم السياسة لم يمح اشمئزازي من قطبيه الرئيسيين "البراغماتية والميكافيلية". هشاشتي هذه تنبع من ضعفي كامرأة تكره الدماء والحروب، وتهلع من مشهد عصفور ميت، فما بالكم بالبشر وقود الحروب والسياسات؟! يشفع لي أني لا أطرح نفسي كامرأة حديدية ولا أنوي ترشيح نفسي لزعامة سورية المقبلة، فدعوني سادتي الكرام أحلم كما أشاء وأصوغ أمنياتي كما أشاء.
عام 2006 إبان العدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان الحبيب، نزح حوالي نصف مليون لبناني، لجأ معظمهم إلى سورية. حينها كنت كمعظم السوريين والعرب مسحورة بخطابات وشعارات السيد حسن نصر الله ونَفَسِه المقاوم، وكنت أحلم مع بقية العرب أن تصل صواريخ حزبه إلى ما بعد.. ما بعد حيفا.
لحظة العدوان على الجنوب كنت على المعبر الحدودي بين لبنان وسورية أقف بالقرب مما يسمى نقطة المصنع، أنقل الحدث على الهواء المباشر لإذاعة دمشق، وأناشد عبر المايكروفون السوريين القاطنين في (دمشق) وريفها و(درعا) وريفها أن يساندوا الأعزاء القادمين من لبنان ويهبوا لنجدتهم، ولن أنسى ما حييت تدافع مئات السيارات والعائلات السورية مباشرة لتلبية النداء. فتح السوريون يومها قلوبهم وأرواحهم وبيوتهم لأشقائهم اللبنانيين، غطوهم بأهداب العيون، مهللين معهم للنصر القادم على يد (سيد المقاومة): "لبيك يا جنوب، لبيك يا لبنان".
لم يخل بيت سوري "سني" ولا غيره حينها من عائلة أو طفل لبنانيين، تماما كما لم يخل بيت سوري "سني" ولا غيره قبل الثورة السورية من صور "سماحة السيد" المعطرة بالحب، الصور الوحيدة التي تفوقت عددا وحبا على صور "القائد الخالد" ومن بعده "القائد الشاب" وأيضا على الصور الشخصية لأقرب أبنائهم إلى قلوبهم، حيث كانت تُرفَع عن الجدران لتعلق مكانها صورة السيد، وأجزم -وقد كنت شاهدة- أن الأغلبية الساحقة ممن آووا اللبنانيين الفارين من أتون الضاحية الجريحة هم من العرب السوريين "السنة".
لم يتوقع هؤلاء العروبيون يوما أن يخونهم سماحة السيد نفسه، وأن يقف الرجل الذي أغرقوا صوره بدمع العروبة إلى جانب الطاغية في حربه ضد توقهم للحرية!
لم أكن أنا نفسي أتخيل أن يأتي هذا اليوم وأن أجدني مضطرة لكتابة هذه السطور إليك يا حسن نصر الله لتذكيرك أنت والسادة القراء ببعض النقاط التي غابت عنك أو تجاهلتها صابا جام غضبك على المملكة العربية السعودية، إثر تشكيلها للحلف العربي المناوئ لأطماع إيران في اليمن ومن قبلها سورية والعراق:
فلنبدأ من الهزيمة الكبرى التي حلت بالعرب عام 67 التي لا نزال نقطف ثمارها السامة حتى هذه اللحظة، حيث وقفت المملكة موقفا واضحا وجليا في مؤتمر الخرطوم الشهير الذي تمت فيه المصالحة بين الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز وبين الرئيس جمال عبدالناصر، وخرج مؤتمرها باللاءات الثلاث: لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف بإسرائيل، التي أيضا كسرها كثيرون فيما بعد عبر القرارين 242 و338 المتضمنين اعترافا مضمرا غير مباشر بإسرائيل مقابل إعادة الأراضي العربية المحتلة.
ثم في حرب 1973 حين وقف الملك الشهيد فيصل بن عبدالعزيز موقفا تاريخيا بإيقاف النفط إلى أوروبا وأميركا لأنهما وقفتا مع إسرائيل، وتضامنا مع "سورية حافظ ومصر السادات"، وحصلت أولى الهزات الاقتصادية في العالم، ومن زار الغرب في تلك الفترة رأى بأم عينه كيف اضطر الغربيون إلى استعمال الدراجات الهوائية بدل السيارات إثر إيقاف النفط السعودي.
المحطة الثالثة في (كامب ديفيد) عندما انفرد السادات بالصلح مع إسرائيل فوقفت المملكة العربية السعودية بقوة ضد المعاهدة وقطعت علاقاتها معه كي لا يستفرد بـ"سورية الأسد" وكانت من أوائل من وافق على نقل مركز جامعة الدول العربية إلى تونس وقطع العلاقات مع الحكومة المصرية لسنوات إثر موقفها هذا.
أيضا لا ننسى دعم المملكة المديد رسميا وشعبيا للدولة السورية إبان حكمي حافظ الأسد وابنه اللذين أكدت أنت شخصيا في أكثر من مناسبة انتماءهما إلى محور "الممانعة".
وماذا عن دعم السعودية للشهيد رفيق الحريري سليل فكر ونهج المقاومة والعروبة وأول الداعمين لـ"سورية الأسد "حتى تحرير الجنوب عام 2000، والذي كنت أنت وحزبك على صلة ممتازة به؟
أبعد من ذلك، لماذا لم تستنكر للحظة العدوان الأميركي على العراق 2003، وتوغل إيران في دماء العراقيين؟! ولم نسمع منك كلمة واحدة ضد من جاؤوا على ظهر الدبابات الأميركية وتسلموا زمام السلطة هناك! وكان أصدقاؤك المالكي والجعفري وغيرهم يجلسون مع الأميركان ثم يأتون إليك؟!
لقد أوغلت إيران في دمنا العربي من بغداد إلى دمشق فصنعاء، وبدل أن تتحزب لعروبتك تحزبت لولاية الفقيه في (قم)، وها أنت تعتبر ثورة الشعب السوري ضد الطاغية بشار إرهابا ومؤامرة على العروبة فيما تدافع عن انقلاب غير شرعي للحوثيين في اليمن!
كيف ضعفت ذاكرتك إلى هذا الحد يا سيد حسن؟ لا بأس فذاكرة الشعوب العربية حية، وهي سَتُذَكِرك -إن كنت ناسيا- أن الشعوب التي هتفت باسمك وتسمرت أمام الشاشات لمتابعة خطاباتك مأخوذة بصوتك الهادر، مبللة صورك بالدمع والأمل، متوسمة فيك فارسا عربيا مقداما لا فارسا فارسيا إيرانيا، هي نفسها الشعوب التي خذلتها!
كنت وما زلت امرأة حالمة.. تراهن على أوهام هزيلة وتكتب سياساتها بحبر الحنين. وها أنذا أكتب إليك.. أعتذر يا سيد حسن، أعتذر عن تورطك بدمائنا.
اخلع عمامة الفقيه في (قم) وارتد العمامة اليعربية، ربما حينها نثق بك مجددا، ونصدق أنك عندما كنت تحدثنا عن صواريخ ما بعد.. ما بعد حيفا لم تكن تعني ما بعد.. بعد دمشق، وبعد بغداد، وبعد.. بعد صنعاء.