هذا المقال نتيجة لنقاش تويتري تلا المقال السابق. أطروحة المقالة السابقة كانت كالتالي: المجاملة الاجتماعية تقطع على الإنسان فرصة أن يرى نتيجة أقواله وأفعاله. بمعنى أن الفرد لا تصل له بشكل مباشر مشاعر وآراء الآخرين الناتجة عن تواصلهم معه. هذا الانقطاع يحرم الفرد من أن يتعرّف على حقيقة طبيعة سلوكه. الآخر الذي يفترض أن يكون هو المرآة التي ترى فيها الذات نفسها اختفى وتحوّل إلى مرآة مزيفة تعكس صورة مزيفة.
الفرد يعرف أن هذه الصورة مزيفة لأن صورا مغايرة لها تصل له عبر الآخرين، ولكنها هذه المرة تصل بطرق ملتوية تجعل من الممكن تجاهلها ولو ظاهريا بدعوى أنها مدفوعة بنوايا غير طيبة. ضربنا مثالا بشخص يخلق الروايات ليثبت للآخرين أنه مهم ومُتابع من جهات عالمية. المستمعون لا يظهرون أمامه إلا الموافقة أو الصمت، لكن الأخبار تصله باستمرار أن فلان يتهمه بالكذب من وراء ظهره. صاحبنا بدلا من أن تصل له رسالة صادقة بأن كذبه غير مقبول تأتي رسالة لا يصدقها ويتهم صاحبها بسوء الخلق، لأنه ذكر ما يسوءه من وراء ظهره. صاحبنا خسر الفرصة التالية: أن يواجهه من يحترمهم برأيهم في سلوكه، مما قد يدفعه لتعديله. هذا المشهد يمثل نموذجا على إعاقة المجتمع للنمو الأخلاقي عند الأفراد.
مجموعة من القارئات والقراء أشكلوا الصورة السابقة كالتالي: الصراحة التي تطالب فيها قد تكون أيضا حجابا بين الذات والآخر. الصراحة قد تكون بوابة للإساءة للآخرين. نحن لا نعيش في بيئة مثالية وليس كل الأفراد يبحثون عن مرآة يرون فيها أنفسهم. ربما يفضلون الهرب من هذه الصورة ولو قليلا. هذا اعتراض وجيه وحقيقي. في الأخير الناس تختلف أذواقهم ومزاجاتهم، وقد يكون تعبيرهم عما يرونه في خيارات الآخرين بابا واسعا لإفساد علاقتهم.
هذا الاعتراض يطرح سؤالا مهما وهو عن كيف يمكن التواصل المباشر والصادق فرصة لإنشاء واستمرار العلاقة مع الآخر وليست لقطعها أو تشويشها؟ برأيي أنه يمكن أن نبدأ النقاش بإجراء تقسيم جوهري بين شؤون الفرد العامة وشؤونه الخاصة. شؤون الناس الخاصة يفترض ألا تكون موضوعا لتواصلنا معهم إلا إذا طلبوا منّا ذلك. التعبير عن آرائنا في خيارات الناس في شؤون حياتهم الخاصة كأسلوب الحياة، الذوق الفني، الاهتمامات..إلخ هو ما يفسد علاقتنا معهم. هذا الفضاء هو كذلك برأيي فضاء المجاملات التي لا تعبّر عن الكذب والخداع بقدر ما تعبّر عن احترام أذواق وخيارات الناس في شؤونهم الخاصة حتى ولو لم تعجبنا.
في المقابل نستطيع أن نقول إن سلوك الإنسان في المجال العام أي سلوكه المعلن بشأن قضايا عامة أو في وسائل عامة أو في عمله كموظف عمومي هو موضوع ومجال التواصل الصريح والصادق. المجاملة في هذا الفضاء تعتبر كذبا وتزييفا.
كذلك يدخل في باب المجال العمومي الخطاب الموجه بين الأفراد. بمعنى أنه حين يوجه إنسان ما خطابا مباشرا لإنسان آخر ويرحب به للتواصل فإن على الطرف الآخر مسؤولية الصدق والإخلاص والأمانة. بهذه المعادلة يمكن برأيي أن نوازن بين حق الأفراد علينا بأن نصدقهم القول وبين أن نحفظ لهم فضاءاتهم الخاصة التي لا يطلبون فيها رأيا من أحد.
كذلك لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن مراعاة مشاعر الأفراد لا بد من موازنتها مع آثار سلوكهم على الآخرين. بمعنى أن سلوك الأفراد المتعلق بالآخرين لا يجب أن نحجم عن التعبير عن رأينا فيه لمجرد أن هذا الرأي قد لا يعجب الفاعل. المتأثرون بالفعل لهم قيمة أعلى وبالتالي فلا بد من التعبير عن رأينا في الفعل انطلاقا من حق المتأثرين به علينا. هذا المبدأ النفسي والفكري خلف كل حراك من أجل العدالة وينطلق من مبدأ المساواة بين أطراف العلاقة. كذلك لا بد من الانتباه إلى أن التواصل مع الآخر لا بد أن ينظر له بمنظار أوسع من أن تقرأ بحسب الردود المباشرة والأولى. في أحيان كثيرة التواصل يولد بعد ردود فعل مباشرة تثير الاستياء والغضب. أحيانا نحتاج وقتا أطول لتهدأ مشاعرنا وتضح لنا الأمور أكثر لندرك أن من صارحنا ولو آلمنا في البداية هو الأقرب لنا والأكثر احتراما لنا. الصراحة تؤسس لمعنى أعمق بين الأفراد وهو الاحترام. الاحترام هنا يتم التعبير عنه بعقد أخلاقي متجاوز للمواقف اللحظية المباشرة إلى ارتباط أعمق لا يبرر لنا الكذب على الآخر أو خداعه بعبارات موقتة ومغشوشة.
بهذه الموازنة بين وجودنا في الفضاء العام مع الآخرين وبين خصوصيات الآخرين يمكننا الحصول على قدر أكبر من الصراحة والصدق بدون أن نتجاوز على الحقوق الأخلاقية للآخرين. كذلك من المهم الإشارة إلى دور السياق الذي نطلق فيه تعبيراتنا وأثرها في استقبال الآخر لما نقول. هناك حس إنساني يصل غالبا إلى الآخرين يعطيهم الانطباع أن ما يقال لهم ينطلق من شعور طيب أو العكس. مثلا الإنسان الذي لا يحسن استقبال آراء الآخرين فيما يفعل ويقول يحدّ من فرصة استقبالهم لما يقول. كذلك إحسان اختيار المفردات في التواصل مع الآخرين جوهري، فاللغة لا تنقل فقط مضمون ما نقول، بل مضمون ما نشعر به كذلك. أيضا من المهم إبقاء تعابيرنا مرتبطة بالسلوكيات وألا تتحول إلى أحكام عمومية على الأشخاص. بمعنى آخر الأشخاص ليسوا مواضيع أحكامنا، بل سلوكياتهم.