منذ بدء ظاهرة "الربيع العربي" السياسية في يناير 2011، كان الغالبية العظمى من الأفراد مؤيدين للثورات التي شاركت فيها معظم الأطياف السياسة في المجتمع، ولكن اتضح فيما بعد الانتخابات أن هناك محاولات استفراد بالسلطة. فبعد تجربة الثورتين التونسية والمصرية تحديدا اتضح بروز "الإخوان" كقوة سياسية لم تكن واضحة الدور في كلتا الثورتين، ثم تحول هذا البروز السياسي في الإعلام إلى إعلان واضح للاستئثار بالسلطة، ولذلك شعرت الأطياف الأخرى أنها ستكون خارج السلطة والشراكة السياسية المفترضة، فالديموقراطية ليست "الانتخابات" فقط، والفوز بالأغلبية لا يعني إقصاء التيارات الأخرى من "خياراتها" وحرمانها من أن تكون شريكا في اللعبة السياسية، حتى لو كانت بموقع المعارضة الفعلي أو خارجه. 

تجربة مصر مختلفة عن تونس، فالجمهورية التونسية ذات مجتمع علماني، أي مجتمع مدني في دولة سمتها الغالبة النظام والقانون، ويقصد بالعلمانية في العالم الغربي "العقلانية" على المستوى السياسي تحديدا، وهي مشتقة في مفهومها من كلمة "عالم"، والعالم في طبيعته فيه الاختلاف والتعدد الإثني والديني والثقافي، ولذلك لا تغلّب الدول "المدنية" في العالم جانبا على جانب، ذلك أنها فضاء للجميع، إذ لا يقبل طرف فرض رؤاه على الطرف الآخر في المجتمع متعدد الثقافات والمشارب كما هو الحال في أوروبا "الآن"، إذ لا يمكن تخيلّ فرنسا دولة للكاثوليك، وبريطانيا للبروتستانت، والهند للهندوس، والصين للبوذيين فقط! كما لا يمكن مقابل ذلك تصوّر مصر وتونس للإخوان فقط! فكلا الدولتين فيهما من القوى السياسية المختلفة التي يفترض أن تشارك في الحياة السياسية العملية، لا على طريقة إدارة حزب الله للبنان!

وعلى رغم السلوكيات التي مارسها زعماء سياسيون أرادوا فرض سيطرتهم من خلال الإيهام بفرض "العلمانية" فرضا على المجتمعات دون مراعاة للقيم الدينية والثقافية التي هي جزء أصيل في ثقافة المجتمع، ليحققوا سيطرة سياسية ما "أتاتورك، رضا بهلوي، بورقيبة، عبدالناصر..."، فإن الجماعات السياسية الإسلاموية أعلنت حربها على هذه التوجهات حين أدركت أنها ستكون خارج السلطة، فالانقلاب العسكري الذي قاده عبدالناصر على الملك فاروق كان "الإخوان" مشاركين أو على الأقل داعمين له سياسيا لكن عبدالناصر أخرجهم من اللعبة قسرا، وهذا يجعل التذرع بعدم خوض التجربة السياسية لهذه الجماعات أمرا مستبعدا، ولذلك حين جربت المجتمعات العربية البديل السياسي "الديني" اتضح أنه-سياسيا- قام بتكريس سوء من الوضع القائم، وهذا ظهر بوضوح بعد فوضى "الربيع العربي" التي اتضح أن محصلتها تمكين البديل "الإسلاموي" من السلطة فقط حتى لو أدى ذلك إلى حروب أهلية!  لم يكن عقلانيا القبول بهذه النتيجة، فالمنطق يقول إنك حتى لو كنت ترى أنك على حق، فآخرون ربما يرون أنك لست كذلك، وهذا ما حصل في مصر تحديدا من استعداء للفكر والرأي الآخر، وهكذا كرّس "الإخوان المسلمون" الفكرة بأن سلوكهم لا يدل على "إيمان" فِعلي بالشراكة الديموقراطية، فالفكر السياسي لديهم مبني على "الحاكمية السياسية بسلطة الفرد المطلقة بوجود "مرشد، وجماعة، وما بينهما من إقصاءات دفع ثمنها بعض رموز الإخوان أنفسهم، ومنهم عبدالمنعم أبوالفتوح وثروت الخرباوي وكمال الهلباوي، فيما كان المصريون يرتقبون هذه الديموقراطية، خاب أملهم، إذ تعامل الرئيس محمد مرسي مع الرئاسة بمنطق مكتب الإرشاد الذي كانت تدار من داخله، ولم يكن الشعور بأن مرسي رئيس محايد لكل المصريين، وللأسف كانت الإدارة فاشلة فكريا وسياسيا وأصبح حديثه موضع تندر أشعر المصريين والعرب أن رئيس مصر بلا هيبة، وهو نتيجة للأسس الانتخابية بالدفع بمرشح غير مناسب.

هذا الفشل الذي انعكس سلباً على بقية مؤسسات الدولة المصرية وعلاقاتها العربية والدولية، ما جعل المؤسسة العسكرية المصرية تقرّ بوجود خطر بل أخطار متعددة، وتبدي رغبتها في لعب دور الوسيط بين القوى السياسية، وكانت هناك محاولات لتسويات سياسية بين القوى السياسية التي عاشت حالة استقطاب سياسي حاد، لكن القرار كان بيد "صقور" الإخوان، الذين لم يستوعبوا أن عليهم التهدئة ومراجعة أوراقهم السياسية، حتى لو ترتب على ذلك تخليهم عن جزء من السلطة أو لنقل السلطة كلها مؤقتا.

وهنا وصلت الأمور إلى ما وصلت من خروج الرئيس السابق محمد مرسي في "الخطاب الأخير" ليصرح في نهاية خطابه: "لن أتنازل عن الشرعية "السلطة" حتى لو كان ثمنها دمي، وعندها أيقن المصريون أن "الإخوان" جاءوا ممتطين للعملية الديموقراطية الأولى في مصر كي يبقوا فيها إلى الأبد".

وصول جماعة "الإخوان المسلمين" إلى السلطة في مصر كان بنفس الطريقة التي وصل بها "النهضة" إلى السلطة في تونس، غير أن النتيجة كانت مختلفة من ناحية اختلاف طريقة المحافظة على المكاسب، والمحافظة على مدنية الدولة في الوقت نفسه، ما جعل العسكر يعودون إلى السلطة في مصر بانقلاب عسكري لكنه "غير تقليدي"، وإن كانت نتيجته هي النتيجة نفسها بالنسبة لتنحية الرئيس السابق حسني مبارك، فاليد العسكرية التي خلعت حسني هي اليد العسكرية ذاتها التي خلعت مرسي.

هنا خسر العالم العربي فرصة التأسيس بأن تكون مصر من أكبر الديموقراطيات في العالم، وأؤكد هنا أن إعادة الأمور إلى نصابها الديموقراطي مستقبلا رهن بتغيير الخطاب السياسي ليقوم على الشراكة مع التيارات الأخرى كجزء من "اللعبة" لا كلها، وهذا ربما يستلزم قراءة التجربة التونسية والاستفادة منها، فهي تجربة جديرة بالاحترام منذ أن كانت "النهضة" في السلطة كجزء من الشراكة مع الأطياف السياسية الأخرى.